خولة دنيا. كاتبة وناشطة نسوية سورية مقيمة في تركيا
الثورة في أحد تجلياتها، ثورةٌ على المفاهيم الاجتماعية والدينية السائدة، فالحرية التي نادى بها السوريون والسوريات، لم تعنِ الشيء نفسه للجميع. وبينما هي على المستوى السياسي، تهدف إلى تغيير جذري في نظام الحكم الديكتاتوري، فقد أخذت مفاهيم تحررية أخرى، كحرية المرأة من حيث هي تهدف إلى المساواة الجندرية، والعدالة أمام القانون، وفي سوق العمل والمجتمع.
قد يكون مبكراً رصدُ مآلات الثورة سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ولكن يمكننا تلمس التغييرات الكبيرة التي طرأت على صعيد الوعي النسوي عموماً، وعلى التبدلات في المفاهيم والحريات الشخصية والفردية بشكل خاص.
وفي حين يمكننا تلمس الخسارات الكبيرة التي يقع تحت وطأتها السوريون كافة، ورغبة الجميع بانتهاء الحرب، للعودة إلى نقطة البناء واستعادة وطن مجزأ ومقسم تحت وطأة دول متصارعة فقد فيها السوريون قرارهم السيادي، يمكننا في الآن نفسه تلمس موقع المرأة السورية اليوم.
ولعلها النقطة الأكثر وميضاً في واقعنا المأساوي، حيث نجد النساء مستمرات في نضالهن اليومي سواء لكسب قوتهن وقوت عوائلهن، أو لتغيير أدوارهن الاجتماعية والاقتصادية وموقعهن ضمن أسرهم.
في هذا الخضم، تبدو التحولات أكثر وضوحاً على المرأة السورية اللاجئة، فهي وإن بدت أكثر انسجاماً مع محيطها الاجتماعي في دول اللجوء القريبة (تركيا، لبنان، الأردن) إلا أنها تعيش قطيعة أكثر عمقاً في الدول الأكثر بعداً في أوروبا (ألمانيا، فرنسا، السويد..).
فكلما ازداد البعد عن المركز/الوطن الضاغط بكل جزئياته، تجلّت الخيارات الفردية للنساء باستقلالية وثقة أكبر. فالأحلام المؤجلة لم تعد مؤجلة الآن، وكذلك بزغت أحلامٌ جديدة في دول اللجوء.
فالاحتكاك مع مجتمع وثقافة جديدين، تنوع المعارف، الثقة الأكبر بالذات، واستقلالية القرار تحت حماية قانون يحترم حقوق النساء، حوّلهنّ لنساء قويات، واثقات، قادرات على البدء من جديد وإثبات ذواتهن المقموعة سابقاً تحت مسميات كثيرة: كالدين والعرف، المجتمع، العائلة، الأخلاق، العيب، الحرام .. إلخ من قائمة تطول تعودن أن يعشن ويمتن تحت مظلتها.
أولى علامات الرفض
في أحد أيام صيف 2012 سنحت لي فرصة التعرف على صبية من دوما، ناشطة في إحدى مدن الغوطة الشرقية، قدمت كل ما تستطيع لثورةٍ آمنت بها، وتعرضت للاعتقال. ثم لجأت إلى إحدى دول أوروبا. وهناك كان من أوائل قراراتها؛ القطيعة مع قيدين: الأول زوج لم تعد تجمعها به الرغبة بالاستمرار باسم العائلة والمجتمع، والثاني طريقة لباس لم تعد تقتنع بها تحت مظلة الدين.
قد تكون نموذجاً لنساء كثيرات كانت أولى علامات الرفض لديهن هي المصالحة مع الذات عاطفياً وفكرياً. وهو ما لمسناه بكثرة لدرجة ارتفاع صيحات الاستهجان ومطالبة النساء بالعودة إلى رشدهن تحت وعيدٍ بالثبور والجحيم وحتى القتل.
لم تكن تحولات الجميع على هذه الدرجة من التغيير، ولكنه بالتأكيد دفع الكثيرات حتى ممن لا مبرر أمني لخروجهن من سوريا، إلى اختيار اللجوء كوسيلة وحيدة لتقرير مصيرهن الشخصي.
كثرت حالات الانفصال الزوجي بعد اللجوء، وكذلك حالات العودة إلى الدراسة وتنشيط حياة كانت متوقفة بسبب الزواج التقليدي، وبالتزامن أصبح من السهل تقرير احتياجات الجسد والهوية الجنسية، وطريقة اللبس وعدد الأطفال، وحق اختيار الزوج، أو اختيار حياة جنسية خارج قيود الزواج.
أيّ مصير سيكون في استقبال النساء عند العودة؟
في تشكيلة القرارات هذه التي تتخذها النساء، ويقف الرجال عاجزين أمامها وأمام قوانين تحجّم سلطتهم، ودورهم الحامي والمسيطر، يصعد سؤال العودة كخطر داهم ومخيف أمام النساء:
في حال قررت هذه الدول إعادة اللاجئين إلى بلدانهم، فأي خيارات ستقع على كاهل النساء اللاجئات:
هل سيخترن طواعيةً العودة بما تعنيه من تراجع للوراء؟ وكيف يمكن الاعتياد مجدداً على واقع قطعن شوطاً طويلاً في رفضه والبناء عليه من الصفر؟
أيّ مصير سيكون في استقبالهن عند العودة؟ وكيف يمكنهن احتمال الثمن الذي قد يجبرهنّ المجتمع على دفعه تكفيراً عن حريتهن في تقرير مصيرهن؟
ليس صحيحاً أن سؤال العودة إلى الوطن هو نفسه بالنسبة للرجال والنساء، فالثمن أغلى بكثير على النساء.
وبالمقابل ماهي فرص البقاء، والاستمرار في البناء في هذه الدول الجديدة؟ حيث يبدو كذلك من الصعب على الجميع امتلاك أدوات الحياة بما تتتضمنه من جنسية جديدة وتمتع بالمواطنة الكاملة.
قد يكون من المبكر اليوم -مع استمرار الحرب في سوريا- الإجابة على أسئلة العودة، وهو ما يعطي النساء وقتاً للتفكير في هذا الاحتمال. لكنه أيضاً ليس باكراً جداً، وقد يأتي بشكل مفاجئ اليوم الذي يُطلب فيه من الجميع جمع الأمتعة والاستعداد للرحيل، وهو ما يفرض على النساء التفكير من الآن بصنع واقعهن الجديد ومدّ جذورهن قويةً في الأرض الجديدة، أو اتخاذ القرار الواعي والواثق بالعودة.
هذا المقال ليس دعوةً للقلق من المستقبل، بل دعوة للتفكير بالاحتمالات الممكنة والعمل على إنجاح الاحتمال الأكثر انسجاماً مع الخيارات الشخصية الحالية لكل منّا. فنحن معشر النساء صنعنا ثورتنا في هذه السنوات، ويجب أن لا نتخلى عمّا صنعناه مهما كانت النتائج.
اقرأ/ي أيضاً:
أسئلة “الوطن” التي لا تنتهي
كيف يختزل الوطن إلى سقفٍ وجدران