حكم عبد الهادي
الأدباء كبقية الناس، إما أن تحبهم أو أن تتجنبهم. أثناء إقامتي في ألمانيا منذ عام 1958 لم أستطع على سبيل المثال؛ أن أقرأ كتابًا واحدًا لـ “جنتر جراس” الحائز على جائزة نوبل للأدب، رغم محاولاتي العديدة، ورغم انسجامي مع مواقفه السياسية، فبعد خمسين صفحة كنت أقول: “آسف، نوبل على العين والرأس، ولكنني لن أواصل القراءة”. لماذا؟ كان شيء ما ينغّص عيشتي في كتاباته.
لحسن الحظ؛ هناك كتب أخرى تظل في البال لعشرات السنين، وما زلت أبعث “الملل” في نفوس أصدقائي لأنني لا أكف عن روايتها لهم.
أحداث رواية الأديب البولندي-الألماني يورك بيكر (1937 – 1997) “يعقوب الكذاب” ما زالت ترافقني، علمًا أنني قرأت كتابه الذي صدر في عام 1969 منذ أكثر من ثلاثين عامًا. يعقوب، بطل هذه القصة التي تستند إلى الواقع جزئيًا، كان أحد المعتقلين في معسكرات النازية، وعندما أصر أعز أصدقائه -الذي كاد يموت من الجوع- على سرقة البطاطا من حديقة المعسكر، خطرت ببال يعقوب كذبة أراد أن ينقذ من خلالها صديقه من الموت، لأنه كان يعلم تمامًا أن جنود هتلر سيقتلونه لا محالة رميًا بالرصاص. قال له: “سأبوح لك بسر. لدي راديو، ومنه استقيت خبرًا مفاده أن الجيش الروسي على أبواب برلين، سيحرروننا، يا صديقي من سلاسلنا فاصبر قليلا”. عزف الصديق عن تنفيذ خطته، ثم انتشر الخبر كالنار في الهشيم في المعسكر، وعاد التفاؤل إلى المعتقلين. لم يجد “الكذاب” مناصًا من تزويدهم بين الحين والآخر بنشرات الراديو المختلق عن انتصارات الحلفاء، وأصبح الراديو هو الحديث اليومي للمعتقلين. وبينما عادت الحياة إلى معظمهم كان بعضهم يرفض الراديو رفضًا تامًا، لأن وجود مثل هذا الجهاز المحظور كان يعني أن إدارة المعسكر ستقوم بعملية تفتيش وتخريب ربما تودي بحياة الكثيرين. رواية بيكر محبوكة بإحكام، ففيها يرى المرء ردود أفعال البشر التي تختلف من شخص إلى آخر، خاصة في أوقات الحياة أو الموت. يعقوب وجد نفسه مضطرًا أن يعترف أمام أحد أصدقائه الذي لاحقه باحثًا عن الراديو وكأنه أحد رجال المخابرات المحنكين، بأنه اختلق قصة الراديو. انتحر هذا الصديق بعد أن علم ذلك.
قصة الأديب الألماني زيجفريد لينس (1926-2014) “ليلة في فندق” قصيرة، ولكنها تدخل أيضا إلى أعماق القارئ. عندما رويتها في الناصرة للشاعر الكبير الراحل طه محمد علي (1931-2011) لم يتمكن من حبس دموعه. رجل يدخل في وقت متأخر من الليل فندقًا ويضطر أن ينام مع شخص غريب وصعب المراس في غرفة واحدة. منعه هذا الشخص من إشعال الضوء، وبعد عناء وصل الضيف الجديد إلى سريره بعد أن اصطدم بعكازة الرجل شبه النائم الذي تعكر مزاجه، ليطرح عليه أسئلة كثيرة وبطريقة عدوانية تعلقت بأسباب قدومه من قريته إلى المدينة في منتصف الليل، فأجاب بأنه قد جاء من أجل ابنه شديد الحساسية، فهو ينتظر كل يوم في طريقه إلى المدرسة قطار الصباح، ولا يكف عن التلويح تحية للركاب، ولكنهم لا يردّون التحية. ابني يعود بروحه الزجاجية إلى البيت ويزداد يومًا بعد يوم كآبة وشحوبا. وأضاف الأب: جئت لأستقلّ قطار الصباح وأحيي ولدي. رد العجوز مزمجرًا: ويحك!، فأنت تكذب على بنك، والأمر كله في غاية التفاهة!. في اليوم التالي استيقظ الأب في وقت متأخر وكان قطاره قد فات! وكان عزاؤه أن الآخر “سليط اللسان” غادر الغرفة. وصل الأب حزينا ليجد ابنه لأول مرة بمنتهى السعاده. أخبر أباه بأن رجلاً رد اليوم التحية بحرارة وبعد أن ابتعد القطار، ظل يؤشر بعصاه ومحرمته التي ربطها بعصاه!.
الأديب الألماني بيرتولد بريخت (1898-1956) ترك أعمالاً أدبية و مسرحية غنية عن التعريف، فهي ما زالت تعرض بعد حوالي الستين عامًا من وفاته في المسارح والمحافل الأدبية ودور الأوبرا في مختلف المدن الأوروبية، وأذكر على سبيل المثال “أوبرا القروش الثلاثة” التي عرضت منذ أيام قليلة في زالتسبورج/النمسا. ما زالت أيضًا خواطره الذكية التي كتبها خلال ثلاثين عامًا على هامش إنتاجه لأعماله الأدبية الكبيرة، ونشرت تحت عنوان “حكايات السيد كورنر” متداولة، وتشحذ التفكير. روى بريخت أن أحدهم سأل السيد كورنر: “ماذا تفعل إذا أحببت شخصًا؟” أجاب: “أعدّ له تصميمًا وأحرص أن يشبهه”. فأضاف السائل: “هل تعني أن تصميمك سيشبهه؟” أجاب كورنر: “لا، أن يشبه هو التصميم”. كتب بريخت حكايات كثيرة، منها “الذي يقول لا”، هذا “المعارض” للسلطة كان يعتز بمواقفه الصلبة، فأرسلت له الحكومة موظفًا قال له سأسكن معك في بيتك فأنا مكلف من الدولة بذلك. فقال: “نعم، نعم، أهلا وسهلاً”. ظل الموظف سنوات ينام في غرفة نوم المعارض الجبار ويقتات من زادة إلى أن مرض، وفي نهاية المطاف مات ممثل الحكومة فحمله صاحب البيت البطل ووضعه على عتبة البيت وصاح به: “لا”.
*حكم عبد الهادي: كاتب وصحفي عربي مقيم في ألمانيا.