عماد الدين موسى*
يُمكِنُنَا اعتبار كتاب الشاعرة المغربيّة “ريم نجمي” الجديد: “كُنْ بريئاً كذئب”، الصادر عن منشورات المتوسط (ميلانو 2018)، بأنّه كتابُ حُبّ بامتياز، بدءاً من الغلاف مروراً بالإهداء ومن ثمّ الشذرات المنتقاة لتكون في مستهلّ بعض القصائد لِكُتّاب وشعراء آخرين، وصولاً إلى محتوى القصائد وعناوينها. ولعلّ ما يميّز كتابة “ريم” هو تلك الطريقة المُغايرة في تناول موضوع “الحُبّ”، حيثُ كل شيء من حولنا يشي به، الحبّ وحده دونَ غيره، بينما يتصّدر الكتاب شذرة لإيفون أودوار، يؤكّد فيها أنّ “هناك الكثير من الرّقّة علينا أن نتعلَّمَهُا من الذئاب”.
في هذا الكتاب تنحو الشاعرة “ريم نجمي” إلى تدوين كل ما هو حميمٌ وآني من التفاصيل اليوميّة، تلك المُهملة أو العابرة ومن ثمّ تخليدها؛ ثمّة روحٌ تحوم داخل قصائدها، روحٌ حقيقيّة تتوق إلى الحريّة وذلك بالخروج على المألوف والمُعتاد، سواء من جهة المُفردة المنتقاة بعنايةٍ فائقة أو من حيثُ خصوصيّة العبارة لديها، عدا عن زاوية الالتقاط المشهديّة للأجواء والعوالم التي يتم تسليط الضوء عليها؛ فتقول: “في مَدِينتِنا/ يَكُونُ الخريفُ بارداً./ رغمَ ذلك كُنّا نَقِفُ طوَالَ الليْل/ مُتَعَانِقَيْن بِجَانبِ النَّهْر/ حتّى إن المارّينَ/ اعتقدوا أنّنا شَجَرَة”.
تكتبُ “ريم نجمي” كأنّها في نزهةٍ قصيرةٍ لجمع الأزاهيرِ في يوم العطلة؛ تؤنسن الأشياء والموجودات من حولها وتستنطقها، ليس هذا فحسب، بل تبثّ فيها الروح أيضاً؛ كما في قصيدة (فصل الربيع)، أحد أبرز وأجمل (فصول الحُبّ الأربعة) على حدّ وصفها، وفيها تقول: “الساعةُ العاشرةُ تحتَ الصفر/ الثلجُ يُقبِّل النوافذ/ والريحُ تُمشِّط شَعْرَ الحديقة/ الناسُ في عَجَلة/ مِظلّةٌ مكسورةٌ تُلوّح بيديها/ للمُتسكّع الأخير في الشارع./ وحدي كنتُ دافئة/ فقلبي الآنَ في فصلِ الربيع”. الحواريّة ما بين “الظاهر” و”الباطن” بوصفهما عالمين منفصلين ومتقابلين، أو بين الأحاسيس الداخليّة في تعاطيها مع العالم الخارجيّ، هو ما جعل من الشتاء ربيعاً مزهراً؛ ثمّة انبهار شِعري جليّ نجده هنا في هذه القصيدة، رغم الثلج والبرد والحرارة التي تبلغ عشر درجات تحت الصفر.
فيما يخصّ تعريفها للحُبّ فتقول الشاعرة: “لا أستطيعُ أن أُعرِّفُ الحُبَّ/ لكنّي أعتقدُ أنه هو تلك الدقائق/ التي أشتاقُ فيها إليكَ/ عندما تَخرجُ لشِراءِ الخُبز/ صباحَ الأحد”. ما نجده في هذا المقطع، أنّ الشاعرة تربط الحُبّ بتلك التفاصيل البسيطة المُذهلة، وما الاشتياق هنا بوصفه فعلاً يوميّاً سوى أنموذج عاطفيّ حيّ لتلك العلاقة، بعيداً عن تسمية الشاعرة لأيّ كان بالسطحيّة أو التكرار المُملّ، حيثُ إتقانها اللعبة الشِعريّة أضفى المزيد من الإدهاش إلى القول “العادي”، ومن ثمّ تمّ تدويره شِعراً بسهولةٍ ويُسر. كما في قصيدة (ألوان) وفيها تقول: “كثيراً ما أتذكّرُ/ لونَ أوّل فيلمٍ شاهدناهُ معاً/ ولونَ القُبلة الأولى/ ولونَ صَوْتِكَ في الهاتفِ وأنتَ تتحدّث/ عن طفلٍ أصبحَ فراشة/ أنا – كُلّما فكّرتُ في ذلكَ/ يَلوحُ في قلبي/ قوس قُزح”.
يذخر كتاب “كُنْ بريئاً كذئب” بمشاهد رومنسيّة، غايةً في البراعة، تستفيدُ من شِعريّة الوصف، التي نجدها في معظم قصائد ريم نجمي ، وتتأسّس على ركيزتين رئيسيتين، هما: العمقُ في التعبير إلى جانب التكثيف اللغويّ الشديد. ثمّة إثارة واضحة للحواس جميعها تبدأ من “البصر” لتنهي عند “البصيرة”، مروراً بباقي الحواس، حيثُ لكلّ حاسة منها دورها في الإثارة المطلوبة، الواحدة تلو الأخرى. في قصيدة بعنوان (غروب) تقول الشاعرة: “في انتظار الليل/ لنْ أتودَّدَ للشّمس/ حبيبي قَبّلني/ احْمَرَّتْ وَجنتاي/ وصِرْتُ الآن/ مُهَيَّأةً للغُرُوب”. هنا ثمّة اعتماد كلّي على العوامل الداخليّة، من أحاسيس أو ما شابه (التودّد، القُبلة، احمرار الوجنتين)، دونَ أي تدخل للمؤثرات الخارجيّة (الليل، الشمس، الغروب). وفي قصيدة (ساعي البريد ذو الزيّ الورديّ) نجدها تقول: “هل يُمكن أن نلتقي في المكانِ الذي يُسمُّونه البداية؟/ هناك، لا فرق بين مَلمَسِ الحبّ ومَلمَسِ الشّجرة/ هناك، حيثُ تكون السماء ساذجة بما يكفي/ ليكون كلّ شيء على ما يرام./ ساعي البريد يرتدي زيّاً ورديّاً/ ويُوزِّع الأحلام كُلّ صباح”. حينَ تبدأ القصيدة بصيغة السؤال (هل يمكن؟) وتنتهي بالتعجّب (لون الزيّ!، توزيع الأحلام!)، لا بُدّ من أن تكون “الدهشة” العنوان الأوحد لتلك القصيدة.
كتاب “كُنْ بريئاً كذئب”، والذي جاء في مئة وثمانية وعشرين صفحة من القطع المتوسط، هو الإصدار الثالث للشاعرة ريم نجمي ، المُقيمة في ألمانيا، إذْ سُبِقَ لها أن أصدرتْ كتابين شعريّين آخرين، هما: “أزرق سماوي” (2008)، و”كأنّ قلبي يوم أحد” (2011).
في هذا الكتاب؛ ثمّة لغة رقيقة أكثر ممّا ينبغي، شفّافة وهادئة، جنباً إلى جنب مع العبارة السلسة والعذبة في عنايتها بتلك الجوانب الحميمة في حياتنا، حيثُ الحُبّ العنوان الأبرز للكتابِ، وحيثُ الشاعرة من “عائلةٍ تُقَدِسُ الحُبّ”. ثمّة صمتٌ بين ثنايا الكتاب، همسٌ خافتٌ وحنون، ربّما لأنّ “الملائكة لا يتكلّمون”، وطالما “الحنان أخرس”، على حدّ تعبير الشاعر أنسي الحاج.
“عندما تُحِبُّ/ لا تبحثْ عن سماء صافية/ ولا عن ظلّ شجرة/ في قلبكَ جنّةٌ صغيرة/ تَصِلُ إليها بِقُبْلة”.. تقول ريم!.
*عماد الدين موسى-كاتب من سوريا