نيرمينة الرفاعي | كاتبة أردنية
اعتدنا أن نقول: “صورة تذكارية”، ولكنَّ علي جازو يبدأ الكتاب بوصف الأشياء التي تُلتقط لها الصور بأنَّها هي التذكارية، ففي الصفحات الأولى يلتقط صورة مع “المستنقع التذكاري” الذي ينتظر غناء ضفادعه.
ثم يشتم نقص الأقلام التي لم تعد يومًا كاملة بعد الاجتماعات الحزبية التي يتخللها الكثير من الصراخ والشتائم واللكمات، ليترك القارئ منذ السطور الاولى واقفًا أمام “نصوص تذكارية” مليئة بالتوتر والصخب ونقيق الضفادع.
الكتاب الذي حمل رقم 14 وصدر عن بيت المواطن للنشر والتوزيع بدعم من المنظمة الأورو-متوسطية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان عام 2015، يشطر نصوصه ما بين يوميات يبدأ بها وكأنَّه يمارس التصوير والغناء، ثم ينتقل إلى القصائد المحشورة في الليل والعلب الصدئة وشرفات البيوت المحطمة.
بغلافٍ يحمل خمس حمامات تاهت ما بين بياضها ورمزيتها التقليدية للسلم، وما بين السواد الذي يربكك فلا تعلم أهي الحرب تحاول أن تتنكر، أم أن البياض يفقد معناه في زمن الحروب؟
تمشي أمّه بين الكلمات بقدمها الحافية ذات الكعب المشقوق، ووجوه الناس حوله تشبه أحيانًا البرتقالات، والعرق البارد يسيل من جسمه، ليتساءل في الصفحة 23 عن جدوى الاجتماعات السرّية التي صار يكرهها لأنّها مجرّد “واجبات عمياء”!
تزدحم الحيرة والقلق والجمود والرغبة في النوم في الصفحات التي تحاول الهروب خارج البلاد، وتحاول العثور على اسم لمولودة جديدة لم تتعلم البكاء بعد.
“نفد المازوت.. نفد الغاز.. لا كهرباء في البيوت.. وأنا جائع”، تفاصيل كافية لرسم صورة بطون خاوية وأرواح مثقلة بهمّ مستقبل جديد أو أي شيء ينقذهم من “الضجر المهترئ”.
تنتقل المشاهد ذهابًا وإيابًا بين المتناقضات، بين قوة الذهب الباردة ودفء البيت الطيني، وبين الضوء الشتائي المشع والهواء البارد الذي يعضّ الصدور، لتسقط كقارئ بين الجسور المعلقة، وكما يقول جازو في الصفحة 40 إنَّ حواجز النظام تبدأ بالظهور على مداخل المدن فإنَّ الحواجز تبزغ بين نص وآخر أيضًا، فترتفع بك بين ولادة “رنوش”، لتهبط بك بعد صفحات نحو موت “طه”، ثم تمسك بيدك لتقودك عبر الخراب الرمادي وهي تطمئنك: “لقد غدت الحرب أليفة، ويبدو أنَّ إطالة مدتها نزع عنها طابع الخوف”!
في القصائد تتغير لغة جازو نوعًا ما، تميل نحو الرمزية المكثفة والصور المتلاحقة المصبوغة بألوان البحر والصباح والثلج، تكتسب صوتًا موسيقيًا يصلح للنجاة، ويطرح العديد من الأسئلة، “ماذا أفعل بفمي؟”، “أحقًّا أنا غيري؟”، “أو تريدون معرفة الربّ، حقًّا؟”، ويترك من المساحة ما يكفي للقارئ كي يخترع إجاباته بنفسه.. للطبيعة والعاصفة مكانها في النصوص، وحين يكتب علي جاوز عن “المكتفين بمنازل كالريح لا تحمي أحدًا” فستعتقد أنَّه يخاطبك دون شك، ويستمر البحر في إغراقك بمآسيه عندما تصل للسؤال: “كيف نجا من لم يغرق؟ كيف لم يغرق من نجا”؟
يتبرأ من المحللين والإعلاميين والخبراء في الصفحة 83، ثم ينتمي إلى الشحاذين واللصوص والقطط بعد صفحتين، ويمضي باحثًا عن وجهه في المرايا والأقنعة..
وفي البلدات المليئة “بالأطفال والبرد والضحك الصعب” تكمن الكثير من تفاصيل الحياة العادية التي تصادف أنَّها تقع في زمن غير عادي، هذا الكتاب هو تقاطع المساحات بينهما بشكل متوازي يمشي إلى الأمام جارًّا وراءه الكثير من الحرب.
في الصفحة 33 يقول جازو: “حافظُ أسدٍ مهترئ يظهرُ على يسار ألف ليرة”، تخطرُ لي بعدها لقطة في الصفحة 65 تقول: “أنْ أسحبَ الساعة من يدٍ مجهولة”، وتستمرُ الساعات على معاصم الأيادي المجهولة في دورانها الأبدي، قاسمةً أيامنا المهترئة كورقة من فئة ألف ليرة بين وجوه الطغاة، ونستمر نحن في التقاط صور مع “مستنقعاتنا التذكارية”!