نيرمينة الرفاعي
لم يكن يهمُّ جدتي البوسنية قبل أربعين عامًا؛ ما جنسية الشاب الذي تعرفتْ عليه أمي، كان بنظرها عربيًا لا يختلف بشيء عن ملايين العرب الذين تسمع عنهم عبر شاشات التلفاز الأبيض والأسود، أمّا جدتي لأبي فهي أيضًا لم تكن ترى في أمّي سوى المرأة الأجنبية التي لا تعلمُ ما هي “قراص العيد” وترفض تناول الفول والحمّص، يقول تشارلز كولي إن الذات الإنسانية هي نتاج اجتماعي، أي أنَّها تتشكل وتنمو بالتفاعل مع الآخرين، ولهذا تصبحُ لاستجابة الآخرين أهمية كبرى في تصوّر الطفل لنفسه، وبالتالي يبدأ بتخزين المعرفة التراكمية في ذاكرته على مدى السنين ويتصرفُ تلقائيًا ضمن إطارها بحيث يشعر بالانسجام مع محيطه الاجتماعي. هذا الكلام يعني ببساطة أنَّ كلا والديّ حين التقيا، كانا مبرمجين بشكلٍ ما لتقبّل الآخر ضمن إطاره المعرفي الضيّق، الذي اتسعت عيناه دهشة حين اكتشف أنَّ للعالم أبعادًا أخرى أكثر امتدادًا من الانسجام الظاهري الذي يطفو على سطح المجتمع الواحد.
لقد كان من البديهي لجدّتي أن تعتقد أنَّ أبي لا يمكن إلّا أن يكون أسمرَ، والمضحك في الأمر أنَّه قد طابق توقعاتها ولم يرث بشرة أبيه أو عينيه الزرقاوين كصفحة السماء، بل توافق تمامًا مع الصورة التي كانت تتنظرها حماته. كما أنَّ أمّي لم تخيّب أمل حماتها أيضًا، بل التزمت طوال السنين بنظرية جهلها بأقراص العيد وادعائها بأنَّها تراها لأوّل مرّة. كانت طبيعة المشكلات التي نتجت عن هذه الاختلافات مضحكة على المستوى العائلي البسيط، ولا أنكرُ أنني استغليتها وفقًا لمصالحي الشخصية، فقد كنتُ أزيح الصحون جانبًا ممتعضة أمام أمّي، ومؤكدةً لها بأنَّ خياراتها في الطعام أفضل بكثير من خيارات زوجها، ثم أذهبُ إلى الغرفة الأخرى وأثني على ذوق أبي الموسيقي، وأقلّد معه رقص صباح فخري حين يبدأ بالدوران حول نفسه.
ثم بادرت الأيام إلى توضيح بعض الحقائق حيث تبيّن لأمّي بمرور الوقت أنَّ العديد من صديقاتها اليوغوسلافيات يستمتعن بطريقة الحياة العربية بكل تفاصيلها، ثم كانت دهشة أمّها حينَ أتت إلى الأردن في أول زيارة لها عام 1991 لتتفاجأ بأنَّ هناك العديد من القامات الطويلة والوجوه البيضاء والعيون الملوّنة في شوارع العرب، أعلمُ الآن بأنَّ والديّ بذلا جهدًا فائقًا ليمتصَّ كلٌّ منهما ثقافة الآخر، الأمرُ تطلّب “التدرّب” على طريقة القبول والانسجام وكيفية التعامل مع التراكمات الثقافية وإعادة غربلتها وإنتاجها بشكلٍ يناسب جميع الأطراف.
بمرور الوقت أيقنت أكثر بأنَّ بناء عائلة سليمة يتطلّب تقييم العلاقات البشرية بعيدًا عن مدى الاتفاق بين أعضائها على اللغة والدين والطعام والموسيقى واللباس وطريقة قطع الشارع وأسلوب وضع أدوات الطعام على الطاولة وغير ذلك من تفاصيل قد تبدو بسيطةً للوهلة الأولى ولكنَّها تمتدُ لتطال جميع تفاصيل الحياة اليومية.
يقولُ جاك شاهين، الناقد السينمائي اللبناني الأصل، في كتابه “Reel bad Arabs” الذي ترجم للعربية بعنوان “العرب الأشرار” إن دراسة شملت 900 فيلم غربي أُنتج بين عاميّ 1896 و2001 تؤكد حصر هوليوود للشخصيات العربية ضمن الإطارات التالية: الرقص الشرقي ومليارات النفط ومفجرو القنابل والعملاء الذين يحاولون التودد لأمريكا. الأمر يدفعني للتساؤل، هل أنتج العرب في المقابل 900 فيلم أو ما يوازي ذلك في المضمون كي يصحّحوا الفكرة السائدة عنهم؟ أم أنَّ السكوت هو موافقة ضمنية على أنَّهم فعلاً كما صوّرهم الغرب؟
الأمر أخطر مما قد يبدو في الظاهر، فهذه الأفلام جميعها كانت قبل ثورات الربيع العربي وقبل مشاكل الهجرة واللجوء وما ترتب على ذلك من إعادة إنتاج ديموغرافية جديدة غيّرت التركيبة الاجتماعية في العديد من الدول، وإن كانت هناك حاجة لتصحيح صورة الغرب عنّا وتصحيح صورتنا عن الغرب حينها فهذه الحاجة ازدادت الآن أضعافًا عن ذي قبل، ولا نستطيعُ إنكار أنَّنا نحنُ العرب أيضًا نقعُ في ذات المنظومة الخاطئة من المفاهيم مسبقة التصوّر عن الآخر، صديقتي مثلاً تعتقدُ بأنَّ 90% من رجال أمريكا اللاتينية يحملون أسماء “أليخاندرو” و”لويس دافيد” أو “إغناسيو” كآخر الاحتمالات، وصاحبة صالون التجميل تعتقد أنَّ أغلب نساء كوريا واليابان والصين يسرحن شعرهنَّ على طريقة (ماروكو)، وصاحب البقّالة المجاورة لا يثق بالمنتجات الأوروربية لأنَّه متأكدٌ بأنَّ جميع دول القارة العجوز متآمرة على العرب، وتدسُّ منتجات الخنزير ومشتقات الكحول في بضائعها.
ومع أنَّ العالم يفقدُ حدوده الافتراضية باضطراد، بازدياد طرق التواصل التي تغزو بيوتنا يوميًّا، إلّا أنَّ البشرية مازالت بحاجة إلى خلق أدوات تفاهم جديدة تسمحُ للفرد بأن يمتصَّ اختلاف الثقافات ويتفهَّمَ عدم وجود ما يسمى بالصواب المطلق أو الخطأ المطلق، كما أنَّه بحاجة إلى أن يعبّر عن اختلافه وفرادته وبصمته التي لا يشبهه فيها أحد دون أن يخشى فقدان هويته الجماعية التي تجعلُ أغلب أفراد عائلته يرقصون على أغنية واحدة.
لا أعلمُ كم من الوقت نحتاج لتجاوز كلّ الصراعات الدائرة في العالم، ولكنني أعلمُ بأنَّ العلاقات البشرية أجمل بكثير من أن نشوهها بسبب اختلاف طريقتنا في تسمية الأشياء، وبأنَّ الحب والمنطق السليم الذي يفترض استحالة وجود سبعة مليارات إنسان متطابق هما الأساس الذي يجب أن تدور في فلكه بقية الأشياء، ولا يمنحني الأمل سوى بأنَ التلفزيونات الآن ملوّنة، وبأنَّ أمّي أصبحت تتناولُ الحمّص بشراهة بينما يدّعي أبي جهله بأقراص العيد وهو يغمزها بابتسامته السمراء الجميلة.
روائية أردنية