د.مازن أكثم سليمان*
(1)
يتكاثفُ البخارُ على تلافيف الوقت، فنظنُّ أنَّ الزُّجاجَ المُقابِلَ هوَ أقصى ما تمنحُنا إيّاهُ النَّوافذ لنراهُ..
يتكاثفُ الغبارُ أمامَ مدى الخُطى المُترنِّحة، فنظنُّ أنَّ مُلامسةَ أرجُلنا للأرض هو التَّحليقُ الذي وعدَنا به الطَّريقُ..
لا النَّوافذُ قالت: هذا هو المشهدُ، ولا الطَّريقُ قالَ: هذا هوَ العُبورُ.
(2)
هكذا، وعلى هذا النَّحو المُريب للتَّقليد، يتسلَّلُ الكلسُ إلى مفاصل الأفكار، وتُنبسِطُ الصُّوَرُ النَّمطيّة في أساليبِ المَعيش، وينحسِرُ التَّخليقُ المُبدِعُ كسجّادةٍ مطويّة تحت درجٍ مهجور في زمنٍ كانَ يُفترَضُ بأنْ يُشارَ إليهِ أنَّه: زمنٌ جديد!
كأنَّ الأشياءَ حينما جاءتْ أوَّل مرّة لم تكُنْ اختراقاً لما قبلَها، أو كأنَّ كُلّ ما يأتي من أحداثٍ هو مُطابِقٌ لما سبَق إلى ما لا نهاية!
لكنَّ التِّكرارَ لم يكنْ يوماً سوى ربطات عنق مختلفة تُعقَدُ بالطَّريقة نفسِها.
(3)
إنَّهُ شاعرٌ، فاحذروه…
/هوَ المجنونُ الصّعلوكُ السَّكّيرُ المُتشرِّدُ المُلحدُ المُتفلِّتُ من القيَمِ مُخترِقُ الثّالوث المُحرَّمِ (الصَّلبتجيُّ) سارقُ الكُتُبِ زيرُ النِّساء العبثيُّ العدميُّ الأشعثُ الذي ينشلُ من الأكذوبةِ أقنعةَ الحُرِّيّة، ولا يستحمُّ أبداً، فهوَ مُعطَّرٌ بسِحرِ النُّبوَّة التي تقمَّصَها عُكّازاً لألفاظِه المُهترِئة في كُلِّ زمانٍ ومكان!!/
(4)
يا للكارثة؛ حينما تحتلُّ كتائبُ المُسبَّقاتُ ساحةَ المُستقبَل، وحينما يكونُ حبلُ الغسيل مُخصَّصاً لنوعٍ واحدٍ من الملابس البالية أو الفارهة، وشكلٍ واحدٍ من العصافير غير الفضوليّة.
يا للكارثة؛ حينما نقطَعُ رأسَ المُخيِّلةِ تحتَ مقصلة الصُّوَر النَّمطيّة: التَّنميطُ القَبْليُّ للبحرِ والرّيحِ واللُّغةِ والفعلِ والمُبادَراتِ مُصادَرةٌ دؤوبة للقصيدة نفسِها: لكُلّ قصيدةٍ مهما احتالَتْ في ولادتِها، ولكُلِّ حداثةٍ وقد تحوَّلَتْ إلى جيفة.
(5)
– أينَ أنتَ أيُّها الشِّعر إذن؟
يا كُرَةً تتقاذفُها وقاحةُ التَّأطيرِ بفداحةٍ مريرة..
– أين أنتَ بينَ سُلطةِ ذاتٍ شاعرة طابَقَتِ أنموذجاً مُحدَّداً ومُسَبَّقاً للمُستوى الوقائعيّ، وغيبوبةِ ذاتٍ شِعريّة مطرودة بدعوى: هُنا في (البورتريه/القفص) يحيا الجوابُ الوحيدُ المُتعيِّنُ سرمديّاً عن كُلِّ أسئلةِ الشّاعر والقصائد والوجود؟
(6)
قالَ لي الشّاعر (علي الجندي) ذاتَ مُنادَمة: “كنتُ أمارِسُ طبيعتي، ولم أختلَقْ أو أدَّعي ما ليسَ منِّي، ولم أبتذلْ بوهيميَّتي كما يفعلونَ الآن”.
(7)
مَنْ أخبركُم أنَّ النُّعوتَ تسبقُ الأفعالَ والأسماء؟
ومَنْ قالَ لكُم إنَّهُ لا يحقُّ للحديقةِ أنْ تُمشِّطَ شَعْرَ الغابةِ إذا رغبتا معاً؟
ومَنْ أصدَرَ مراسيمَ الصَّحيح والخاطئ حدِّيّاً في ثنائيّاتٍ ميتافيزيقيّة بغيضة؟
(8)
لا أحدَ يُصدِّق أنَّ الشّاعرَ ينبغي أنْ تكونَ لهُ (ماركة مُسجَّلة) ثابتة إلى الأبَد، فما جدوى أنْ يُتقنَ ألاعيبَ الفوضى باحترافٍ باهر، لكنَّهُ يظلُّ- ويا للعار-لايعبُّ من شعار: “الشّاعر الملعون”، إلّا الصوت الخطابيّ المُجلجل؟!!
(9)
أنْ تكونَ ابنَ عصرِكَ أيُها الشّاعر؛ يعني أنْ تُلقِّحَ “أزهارَ الشَّرّ” في كُلِّ مرّة تنفتحُ فيها فجوةُ الوجود باستعارةٍ شمسيّة لم يعهدها النَّهارُ نفسه في أقصى حدود تحدِّيهِ وتأخيرِهِ لقدوم اللَّيل.
(10)
… لهذا العصرِ، وعدُ عودةِ الحداثة الشِّعريّة بزيٍّ ما بعد حداثيّ: نثارَةُ الحكايات العيانيّة اليوميّة، وشظايا الأمكنة المُهمَلة دعاماتٌ للأسئلة الكيانيّة والكونيّة الكُبرى، والفصْمُ الجدَليُّ فعاليّةٌ نسبيّة للذات وهيَ تتفتَّتُ وتسيلُ انشقاقاً بينَ متنٍ يتهمَّشُ وهامشٍ يهربُ…
(11)
بينَ العابرِ والكُلِّيّ يجلسُ شاعرٌ مغمورٌ على شرفةٍ في حارةٍ منسيّة، يحتسي الأعشاب الصّحية، ويستمِعُ إلى أغانٍ هابطة جدّاً (هوَ يهوى هذِهِ الشَّعائِر بعدَ الظَّهيرة)، ولا يكتبُ بأصابعِهِ، بل بدموعِهِ..
تقولُ العرّافةُ في المدينة المُجاوِرة: إنَّ شِعْرَهُ ثورةٌ نِسْيَاقيّةٌ قادمة، مع أنَّ ملابسَهُ مكويّة جيِّداً.
(12)
شاعرُ اليوم ليسَ صعلوكاً أو مجنوناً، وليسَ أيضاً نبيّاً أو مُخلِّصاً؛ لكنَّهُ الحارِسُ المُتواضِعُ للاختلافِ، وصانِعُ الفرق التَّغييريّ من خردةِ الهدمِ المُباغِتة..
إنَّهُ حامي حِمى المُباعداتِ والمُجاوَزاتِ، وحكيمُ التَّخارُجِ الجارِحِ، وحيداً أعزلَ راقصاً على حوافِّ الأفعالِ والرُّموزِ، لا ليكونَ الفاتِحَ الأعظَمَ أو مالكَ الحقائِقِ المَهيبِ؛ إنَّما ليكونَ المُؤوِّلَ المشاعيَّ المُلتبسَ الذي يخونُ كُلَّ ثباتٍ أو يقينٍ بالتَّجريبِ والنَّشاطِ والخلخلة..
هوَ يُعرِّفُ نفسَهُ إذا سُئِلَ: أنا عامِلُ حفريّاتٍ بسيطٍ في مدنِ المَعرفة والجَمال.. آكُلُ أحياناً شطيرة فلافل، وأحياناً أخرى أفضِّلُ وجبة الكوردون بلو، ولساني العاري يلعَقُ حافّة منشار الفراغ بينَ الرَّصيف والغيمة بلا توقُّف…
د.مازن أكثم سليمان. شاعر وناقد سوريّ
اقرأ أيضاً للكاتب: