موفق مسعود. لطالما فكرت وتصورت في مخيلتي الهزيع الأخير من الليل، بأنه زمن موحش ينام فيه البشر بعمق خوفاً من الصحو في عتمته. لكنني اليوم عرفته كأنني لم أعرفه قبلاً.
نهضت من فراشي الدافئ في هذه المدينة الباردة والقريبة من جبال الألب، هي المدينة التي اختارتها لي منظمة غير حكومية تُعنى باللاجئين من الحرب. لم أفكر بل خرجت إلى الشارع وبدأت أركض، وكلما ركضت بدوت أكثر شباباً وكأنني أصغر في العمر. عبرت الشارع الرئيس للمدينة، وتوجهت نحو غابات السرو العملاق على التخوم. لم أشعر بالتعب، وكانت المسافات تطوى تحت قدمي وكأن الأمكنة هي منديل يطويه رجل عجوز بأنامله المعمرة. عبرت الحدود وبعدها حدود أخرى، لم يستطع حراس الحدود والأحراش اصطيادي، كان بعض من لاحقني منهم يتوقف لاهثاً مفنجراً حدقتيه في أثري غير مصدق عبوري. وصلت إلى البحر وانسللت في مياهه كدلفين، عبرت السفن المزمجرة كثيران الحراثة المساقة عنوة إلى العمل، ورأيت الغرقى يتسامرون تحت الماء بقليل ويتبادلون القبل، ثم وصلت إلى شواطئ سورية الرملية، وبعدها مررت بالمدن المحطمة وبسكانها القليلين اللذين يلاحقون الشمس خوفاً من البرد. عبرت مدينتي نحو مناطق المخالفات ثم إلى مكبات القمامة شرق المدينة لأصل إلى براح البادية راكضاً نحو الوعور التي بدت في الأفق كخرافات فاتنة وعمالقة يلعبون. عبرت القرى والخيام وقطعان الماعز آكلة الأشواك حتى وصلت إلى ساحة القرية، حيث/ لعبة الخريطة/. حين وصلت كان أقراني الأطفال يرسمون خريطة اختفائهم على التراب، انضممت إلى الفريق الذي سيختفي في مجاهل الهزيع الأخير من تلك الليلة الشتائية الساحرة، ثم دلفنا في العتم.
موفق مسعود، كاتب من سوريا
اقرأ أيضاً: