ابراهيم حسو
تحمل مجموعة (لا زالت ترن أقراط الهواء) للشاعرة فاطمة حرسان مزاجاً شعرياً مختلفاً، ومناخات لحيوات معاشة، ومحاولات لاستعادة العذوبة في قصيدة النثر التي صرنا نفتقدها في زمن كتابة (الهايكو)، عذوبة في تكثيف المعنى وعذوبة في شذب الكلام وغسله من سرديته، تحاول الابتعاد من الثرثرة الكلامية والهسهسة الشعرية دون اللجوء إلى المقاسات التقليدية التي رسخّت لدى القارئ مفاهيم مختلطة ومتناقضة.
منذ القصيدة الأولى تضعنا فاطمة حرسان في زوايا من حياتها اليومية الخاصة، وتجعلنا نتعاطف مع ألم ذكرياتها وننشّد إلى بوحها وعويلها وهي تنثر هزائمها من الحب، فتخرج لنا منكسرة كتلك العصافير التي تنفخ فيها الريح، وتستأنف وجعها في نصوصها الطويلة الشاقة لتستعيد شذرات من حياتها وسيرتها الشخصية على طريقة القص والاستطراد الشعري، فاطمة تخلط التأمل بالفلسفة اليومية وتوصف حنينها إلى منبتها باستعارات واستعادات كثيفة عبر ابتكار صور وأفكار قابلة أن تتنامى لتصبح ممارسة حياتية داخل النص وخارجه.
هذه الممارسة الحياتية تمتد إلى حقبة ما قبل وجودها في السويد، التداخل بين حياة مفتوحة وحياة عائمة لم تستقر روحياً وابداعياً على تخطي الذاكرة (السورية) التي أبطأت من حركة الحضور والانكشاف على الآخر (الأوربي)، كمرجعية شعرية خالصة وكفضاء مدهش ومثير، ومع ذلك تفاجئنا الشاعرة بقدرتها على تخييل (عالمها الخاص) خارج السياقات الشعرية المعتادة والمنجزة، إذ ثمة صور تخلق فضاءها وأجواءها دون عناء التعبير وتحريك اللغة في كل اتجاه بأنفاس مفتوحة ورئة لاهثة، دون ترتيب للحدث وتوضيب للذاكرة المتحركة، فالذاكرة هنا مشاهد وصور وحكايات منسوجة بتماسك وإتقان، والأحداث هي ظلال أفكار بأشكال متحولة من حدث ويحدث شعرياً، بلا تفكيك للمشهد أو العبث فيه، لأن الأفكار رغم تبعثرها لا تتجزأ ولا تتخلى عن تلقائيتها وظلالها والتباساتها :
هذه الذاكرة ثقيلة الحمل،
أركنها في غرفة فارغ
أجمع فيها:
عيون اللهفة،
وجوه الانتظار،
جداراً لا يغفو إلا حين عناء،
شاهدة أمي التي لا تكفّ عن التلويح
والعسلية التي مالتْ كثيراً بعنقها
فمنحتْ كامل عطرها
طوابعَ بريد
في النصوص التي حملت عناوين تقليدية ومتداولة ( لوعة، تعويذة القلب، نافذة للضوء، قلب صدئ، عواء، اشتياق، فوضى الحب) وهي نصوص غارقة في التصورات والظلال والتوهيمات اللغوية التي قوامها البلاغة غير المتوقعة في شكليتها وقاموسيتها، فالجملة التي تحمل بعض المفردات اليومية تتخللها مفردة قاموسية تعيق وتفرمل المعنى وتجرده من عفويته وجماليته النثرية.
في معظم الأحيان تتحول المفردة نفسها إلى جمل متقطعة متهالكة تبدو عليها التعب البلاغي، ينال منها الثقل اللفظي (أطارده في اخضرار, فلا يلتفت. أسكب عليه أسئلة تترى فيتلعثم) (تيجان الديمومة) (من يوميات موتنا المتعايش، نشم المناديل الملوحة وقوافي العشق الباقية ونغلق باب الواقع ونقطر في فم الموت حكايانا).
بالإضافة إلى أن الشاعرة تشبك المفردات القاموسية مع المفردات الحياتية اليومية المعاصرة في محاولة توظيف اللغة بظلالها، وهي تجربة قد تكون بعيدة أو قريبة من الهدف الذي ترجوه الشاعرة لرغبة في تحريك المفردات الغريبة مع المفردات المتاحة لتشكيل فسيفساء لغوي:
سأعطل هذه الذاكرة
وأمتدح النسيان
سأشبك يد الليل العقيم
وأنظف مسام الهواء من رائحتك
سأسد مسامعي بوحل الهزيمة
كي لا تهتز إذا مرت بها ريحك
سأرفع وجنتي بابتسامة باردة
أمسح غبار خريفك عني
أخفي لاصقات جراحي بالمساحيق
أظل معك في خصام.
في جانب آخر تذهب فاطمة حرسان بأقراط الهواء إلى متاهة أخرى أكثر غموضاً وبعثرة، إلى تعقب الصور وملاحقة المشهد البصري بعيون نصف مغمضة، تلاحق الظلال أينما حلت وتشكلت، تتبع مخيلتها الشعرية خطوة خطوة لحبس هذه التدفقات الصورية التي لا تهدأ ولا تتوقف في خلق حيوات وفضاءات ومشاهد تشكيلية تؤلف لوحة بصرية كاملة، مع ذلك اللافت في هذه المتاهة الجميلة هو العثور على الأنا الشاعرة بكامل حضورها، الانصياع إلى الذات المختبئة التي قد لم نلحظها بقدر ما لاحظنا ظلال المعنى وتلاشيها في النصوص المتقطعة المجتزأة .
اقرأ/ي أيضاً:
الكتابة بمخيلة الرسام: حوار مع الشاعر السوري محمد سليمان زادة