محمد يسري
شكّل الربط ما بين الجنس والدين، واحداً من العوامل المشتركة التي سادت في ثقافات معظم الشعوب القديمة عموماً، والتي تواجدت في منطقة الشرق الأدنى على وجه الخصوص، حيث تعدّدتْ مظاهرُ الاحتفال بـ”البغاء المقدّس”، وممارسة حفلات الجنس الجماعي في باحات المعابد والأبنية المقدّسة.
هذا التأثير الذي تغلغل بأشكال متفاوتة في الحضارات السومرية والبابلية والمصرية والفينقية. ولمّا كان العرب، سكّان شبه الجزيرة العربية، قد تعرّضوا لتأثيرات ثقافية مختلفة من جانب الشعوب المجاورة لهم في المنطقة، فان العديد من الباحثين قد ذهبوا إلى أن طقوس الجنس المقدّس قد عُرفتْ عند العرب الوثنيين، وأن بعضاً من تلك الطقوس قد تم ممارسته بشكل جماعي في المحافل الدينيّة الكبرى، والتي كان موسم الحجّ يتصدّرها بطبيعة الحال.
هل من شواهد على وقوع الممارسات الجنسيّة المقدّسة عند العرب القدماء؟
تصعب الإجابة، إذ لم تصلْ إلينا التفاصيل الدقيقة لتلك الممارسات بشكل واضح، وذلك لعدّة أسباب هامّة.
أوّلها أن العرب – على عكس جيرانهم في مصر والعراق والشام- لم يولوا الكتابة اهتماماً كبيراً، ولم يسجّلوا حوياتهم على نطاق واسع، الأمر الذي نتجَ عنه سمة الشفاهية التي تسمُ الذاكرة العربية في المقام الأول، مما عرّضها للتبديل والتحريف في الكثير من الأحيان.
أما السبب الثاني، فيتمثّل في أن تاريخ وثقافة العرب قبل الإسلام، لم تُنقل إلينا إلا بواسطة المؤرّخين المسلمين، الذين قاموا بعملية إعادة تحرير وصياغة لتاريخ أجدادهم من الوثنيين، بما ينطبق مع المنظومة الأخلاقية الجديدة التي استقرّ لها السلطان، فتعمّدوا أن يخفوا بعض التفاصيل والجزئيات، لتعارضها مع ثوابت ومبادئ منظومة الأخلاق الإسلامية، تلك التي ظهرت وتشكّلت عقبَ نزول واكتمال الرسالة المحمّدية، فمارس المؤرّخون الإسلاميون عملية تصفية و”تنقية” لتاريخ شبه الجزيرة العربية بإخفاء أجزاء ضخمة من التفاصيل التاريخية ونفيها.
ولكن من بين جميع تلك الموانع والقيود التي فرضها المؤرّخون الإسلاميون، فإننا نستطيع أن نتلمّس بعض الأدلّة والشواهد، التي تفلّتتْ بصعوبة من قبضة الرقباء الصارمين والمدوّنين المتزمتين، وهي الشواهد التي من شأنها أن تمدّنا بصورةٍ معقولةٍ عن طقوس الجنس المقدّس في مواسم الحجّ عند العرب قبل الإسلام.
أوّل تلك الشواهد، هي القصّة المتواترة في كتب التراث الإسلامي، والتي تحكي عن صنمين مشهورين كانا منصوبين بالقرب من الكعبة، وهما صنما إساف ونائلة.
بحسب ما يذكر اسماعيل ابن كثير الدمشقي (تـ. 774هـ)، في كتابه “البداية والنهاية”، فإن السيدة عائشة بنت أبي بكر، قد روت قصة هذين الصنمين، فقالت أن رجلاً يُدعى إساف، قد التقى في موسم الحجّ بامرأةٍ تدعى نائلة، وأن الاثنين قد مارسا الفاحشةَ بالقرب من الكعبة، بعيداً عن أعين الناس، فغضب الله عليهما لتدنيسهما حرمة بيته المقدّس، وقام بمسخهما، فصارا صنمين من الحجارة.
ولكن القصّة لم تفسّر تعظيم العرب للصنمين، ولم توضّحْ لما نالا كلّ تلك المكانة العظيمة عند أهل مكّة والحجيج، خصوصاً وأن قصّتهما كانت معروفةً ومتداولةً، فلا يمكن القول بأن العرب قد نسوا الخطيئة الرهيبة لإساف ونائلة، فصاروا يعبدون الصنمين، كما هو ديدنهم في عبادة وتقديس أصنام الأسلاف وأهل الحق والصلاح.
الشاهد الثاني، يتمثّل في الكثير من الكتابات التراثيّة القديمة، التي تفسّر تسميةَ جبل عرفة بهذا الاسم، بكونه يدل على وقوع نوع من المعاشرة الجنسية.
فبحسب ما ينقل الباحث السوري فراس السواح في كتابه “مغامرة العقل الأولى”، أنه عندما نزل آدم وحواء على الأرض بعد خروجهما من الجنّة، فإنهما قد سقطا في مكانين مختلفين، وسار كل منهما باتجاه الآخر لفترة طويلة، حتى التقيا فوق جبل عرفة، فسُمّي هذا الجبل بعرفة، لأن آدم وزوجته قد تعارفا فيه، بمعنى أنهما قد التقيا به ومارسا الحب فيه للمرّة الأولى.
أما الشاهد الثالث، وهو أقوى الثلاثة وأشهرهم، فيتمثّل فيما ذكره المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه “المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، حيث يقول أن الكثير من العرب كانوا معتادين على الطواف بالكعبة وهم عرايا، فيتجرّد الرجال من معظم ثيابهم، ولا يلبسون سوى قطعة صغيرة من القماش لتغطية مكان العورة، أما النساء فكن يتجرّدن تماماً من ثيابهن.
ويذكر جواد علي أن سبب هذا العري الجماعي، هو تحرّج الطائفين من مقاربة الكعبة بالثياب التي لبسوها في معصيتهم لله، ولنا أن نتخيل رمزية خلع الثياب والتجرّد منها، ومشابهتها لفكرة التخلّص من الذنوب والمعاصي والأدران دفعةً واحدة.
كلّ تلك الشواهد التي تجتمع لتؤلّف صورة تسودها المشاعيّة الجنسيّة زمن مواسم الحج قبل الإسلام، تتماشى وتتفق مع العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي تؤكّد بكلّ وسيلة ممكنة على ضرورة الالتزام بالشعائر الإسلامية الجديدة المنظِّمة للحجّ، وبضرورة البعد عن طقوس ما قبل الإسلام.
بحسب ما ورد في سنن البيهقي، فإن الرسول قد أمر المسلمين بتلقّي شعائر الحج منه شخصياً، فقال لهم “خذوا عني مناسككم”، كما أن المسلمين قد رجعوا إليه في كلّ صغيرة وكبيرة في شعائر الحج ، بدليل ما تواتر عن الرسول من قوله في حجّة الوداع لسائليه “افعلْ ولا حرج” وذلك في العديد من المسائل التي شرّعها الإسلام وأخذها عن مراسم الحج القديمة.
أحد أهم الشعائر التي وافق عليها الإسلام، كانت السعي بين الصفا والمروة، حيث يذكر ابن جرير الطبري في تفسيره، أن المسلمين تحرّجوا من هذا السعي لكونه أحد الشعائر التي مورست في العصر الجاهلي، فأنزل الله عندها في سورة البقرة ” إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ”.
كما أن الحرص الشديد من جانب الإسلام على رفض العري والإباحيّة الجنسيّة في مواسم الحج ، من شأنه أيضاً أن يؤكّد انتشار تلك الممارسات عند عرب ما قبل الإسلام.
فقد ورد في تاريخ الطبري أن النبي أرسل أحد رسله منادياً بين الناس بعد فتح مكة، أنه لا يطوّف بالبيت بعد اليوم عريان، كما أنه قد ورد في سورة البقرة، قوله تعالى ” فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ”، وجاء الربط ما بين التوقّف عن الرفث -والذي يعني الجماع والكلام الفاحش المثير للغرائز والشهوات- من جهة والحصول على ثواب الحجّ كاملاً دون نقصان من جهة أخرى، وذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه “من حج فلم يرفثْ ولم يفسقْ، رَجِعَ كيوم ولدته أمُّه”.
على الرغم من تمكّن الإسلام من القضاء بشكل كامل على جميع مظاهر الإباحيّة الجنسيّة في موسم الحجّ، فإن مسألة متعة الحجّ قد حملت إلينا بعضاً من أصداء الجدل الذي أُثير بخصوص تلك الطقوس في الفترة المبكّرة من الإسلام. لعل ذلك مادة لمقالة أخرى.
المصدر: موقع رصيف22
اقرأ/ي أيضاً: