في عصر التكنولوجيا والإنترنت والحياة بين الكتل الاسمنتية، أصبحت الحاجة للتفاعل مع الطبيعة أمرًا ضروريًا ومُلحًا وبالأخص للأطفال. لذلك نرى الكثير من الألمان يُفضلون السكن في القرى حيث الهدوء والسكينة، ولكن ماذا عن الذين يسكنون في وسط المدن؟
لهؤلاء كانت تلك الفكرة الرائعة، حديقة خاصة، للاستجمام والترويح عن النفس، ولحفلات الشواء واجتماعات الأهل والأصدقاء، ولممارسة هواية الزراعة، فليس هناك ما هو أطيب مذاقًا وأرخص ثمنًا مما تزرعه بيديك، وبالطبع لتنشئة الأطفال في جو مثالي بأحضان الطبيعة.
لنبدأ بسرد تاريخي مختصر، حيث بدأت هذه الفكرة قبل أكثر من مئة وخمسين عامًا في ألمانيا وذلك بتخصيص أراضٍ صغيرة للفقراء، ليزرعوها ويعتاشوا على ثمارها بدلاً من الحصول على معونات اجتماعية. وهناك جذر تاريخي آخر أقرب يعود للدكتور شريبر، الطبيب المدرّس في جامعة لايبزيغ، وهو أول من اقترح فكرة تخصيص أماكن في الطبيعة في المدن الكبيرة ليلعب وينشأ فيها الأطفال. وقد رأت هذه الفكرة النور على يد الدكتور هاوسشيلد وهو مدير مدرسة حيث قام بتأسيس أول نادٍ للحدائق الصغيرة Schreberverein. تلك الفكرة لاقت رواجًا وقبولاً واسعين حتى يومنا هذا، حيث يوجد اليوم في ألمانيا أكثر من مليون حديقة صغيرة خاصة.
كما كل شيء في ألمانيا منظم ويسير حسب قانون معين، أيضًا تلك الحدائق منظمة حسب قانون الحدائق الصغيرة BKleingG، دعونا أولاً نلقي نظرة على أهم بنود هذا القانون:
بدايةً يعرٍّف القانون تلك الحديقة على أنها واحدة من عدة حدائق تتبع لنادٍ مرخص لذلك الغرض. الحديقة الواحدة تدعى Schrebergarten ومجموعة الحدائق تسمّى Kolonie أما النادي فاسمه Verein. كما لا يسمح القانون بأن تُستخدم تلك الحديقة لأغراض تجارية، كأن تُزرعها كلها بالخضروات أو الورود، أو أن يُبنى فيها كوخٌ كبير. لذلك وزع القانون طريقة استخدام الأرض الى ثلاثة أقسام متساوية، ثلث للزراعة وثلث للمساحات الخضراء وثلث لبناء كوخ لا تتجاوز مساحته 24 متر مربع. كما لا يُسمح بالإقامة الدائمة في ذلك الكوخ.
بالتأكيد يتبادر الآن لذهن القارئ سؤال عن ماهية العلاقة بين المستفيد من الحديقة والنادي، هل هي تمليك أم إيجار؟ والجواب هو لا هذه ولا تلك. العلاقة تدعى Pacht وهي شبيهة بالإيجار مع صلاحية أوسع، حيث يحق للمستفيد من الحديقة Pächter تغيير ما يشاء في الأرض وزراعة ما يحب طالما كان ذلك في إطار القانون آنف الذكر. أيضًا ننوه هنا أن هناك بعض الأشجار لا يجوز زرعها حسب ذلك القانون، وهي الأشجار العالية جدًا مثل السرو والصنوبر.
لنتكلم الآن عن موضوع التكلفة التي تُقسم الى قسمين، قسم يتم دفعه مرة واحدة عند استلام الحديقة والقسم الآخر هو ما يتم دفعه سنويًا. المبلغ السنوي يتراوح بين مئتين وثلاثمائة يورو حسب مساحة الأرض ونوع الكوخ، وهي تتضمن رسوم النادي والتأمين ضد الحرائق والحوادث بالإضافة بالطبع إلى رسوم الحديقة Pacht. أما ما يتم دفعه لمرة واحدة فهو رسم التسجيل في النادي ويتراوح بين خمسين الى مئة يورو حسب المدينة التي تقع بها الحديقة. أيضًا ما يتم دفعه لمرة واحدة ولكن لا يمكن احتسابه كتكلفة لأن هذا المبلغ يعود إلى المستفيد حينما يود التخلي عن الأرض وتمريرها لشخص آخر. هذا المبلغ هو قيمة ما على الأرض، من كوخ وأشجار ونباتات. ويتم تقييم تلك الأشياء من قبل خبير مستقل كي لا يكون هناك أي نوع من الاستغلال أو الربح التجاري. ذلك المبلغ يتراوح بين بضع مئات إلى عدة آلاف يورو، حسب جودة الكوخ ومدى الاهتمام بالحديقة. هذا يعني أنه من الممكن استلام حديقة بحالة سيئة وإعادتها بحالة ممتازة وتوفير ذلك المبلغ أو العكس بالطبع.
هل تكونت لديك الآن الحماسة وتود إيجاد حديقة صغيرة في مدينتك؟ الأمر بسيط جدًا، قم بالبحث في محرك غوغل بالإنترنت عن أحد الكلمات المفتاحية التالية Schrebergarten أو Kleingarten أو Kleingartenverein بالإضافة بالطبع لاسم مدينتك وستجد العديد من النوادي المسؤولة عن تلك الحدائق. في مواقع تلك النوادي ستجد عادةً قائمة بالحدائق المعروضة للاستفادة، وكل حديقة ستجد لها سعرًا وهو كما شرحنا سايقًا، مبلغ سيعود إليك كما هو، أو أكثر منه، أو أقل، حسب اهتمامك بالأرض والكوخ. وهنا ننصح بالذهاب ورؤية تلك الحدائق لكي يتكون لديك انطباع شخصي عن قيمة تلك الأرض من خلال المقارنة.
وإذا لم يكن للنادي حدائق شاغرة فسيأخذون منك الموصفات العامة لحديقة أحلامك من حيث المساحة والمبلغ المتوفر لديك.
يبقى هناك سؤال عن المجهود والوقت والخبرة الذي يجب تخصيصه للحفاظ على الحديقة ورونقها؟ والجواب يتعلق حقيقة بالسائل، فمن ليس لديه الوقت الكثير يمكن أن يختار زراعة النباتات التي لا تحتاج لعناية خاصة ومستمرة. وبالنسبة للخبرة فالموضوع في بدايته يبدو صعبًا ولكن بوجود المعلومات الكثيرة على الانترنت وبالأخص الفيديوهات القصيرة على يوتيوب لهواة تلك الحدائق سيجعل منك خبيرًا خلال سنوات قليلة.
بالنسبة للماء والذي هو شيء أساسي وضروري لأية حديقة، فكما هو معلوم: المطر في ألمانيا كثير ومتوفر وعليه فالأرض لا تحتاج أية سقاية في الشتاء وفي الصيف تكون المياه الجوفية ممتلئة وفي كل حديقة يكون هناك عادةً بئرٌ أو عدة آبار لاستخراج تلك المياه عن طريق مضخة صغيرة لاستعمالها في السقاية.
ختامًا، هذا المقال نود أن نهديه لرائد الفضاء السوري محمد فارس، حيث سمعناه يقول إن حلمه اليوم، “منزل صغير في وطنه مع حديقة يجلس فيها وأولاده من دون خوف”. ونحن بدورنا ندعو الله أن يفرج عن سوريا كربها وينهي حربها كي نعود ونبني فيها أجمل المنازل والحدائق.
*هذا المقال بالتعاون مع موقع الحياة والدراسة في ألمانيا