فؤاد الصباغ*
منذ بداية التسعينيات انجرفت دول العالم نحو دوامة العولمة الاقتصادية ومشتقاتها من التحرر المالي والتجاري، وذلك بتكريس مبدأ تعزيز مكانة القطاع الخاص على حساب القطاع العام. إلا أنها في معظمها لم تراع الحد الأدنى للأوضاع الاجتماعية للطبقات الفقيرة بحيث انحرف المسار الإصلاحي واتجهت عجلة التنمية الاقتصادية نحو الرأسمالية المتوحشة في ظل تهميش كلي لحقوق العمال والطبقات الكادحة.
إن العولمة الاقتصادية التي وسمت العالم الحديث تعد في مجملها عمليات نصب واحتيال من قبل الدول الغنية على الدول الفقيرة، بقصد نهب ثرواتها الطبيعية وجعلها أسواق ترويجية واستهلاكية لمنتجاتها الصناعية. بالإضافة إلى ذلك تعاني تلك الدول المتضررة من الهشاشة المالية والمصرفية في مؤسساتها الوطنية وفي جميع هياكلها الاقتصادية التي لا تتقبل الإملاءات الأجنبية المجحفة خاصة منها تلك لصندوق النقد الدولي.
إن الاقتصاد العالمي الجديد الذي ينضوي تحت مظلة الرأسمالية التعيسة التي أفقرت البلاد اقتصادياً وحقرت العاملين والكادحين، أصبحت اليوم في مجملها لا تلبي في مناهجها الأيديولوجية طموحات الجزء الأكبر من سكان العالم الذين بلغ عددهم سنة 2018 ما يقارب 7.2 مليار نسمة أكثر من ثلاث أرباعهم طبقات فقيرة ومتوسطة الدخل.
فهذا التحرر الاقتصادي والاندماج في العولمة العمياء كانت له نتائج مدمرة على الجانب الاجتماعي وعلى التوازن بين القدرة الشرائية والرواتب الشهرية، بحيث اختل ميزان العرض والطلب في الأسواق فزادت بالنتيجة الأسعار وارتفعت نسبة التضخم المالي. كما انخفضت في المقابل نسبة النمو الاقتصادي فزادت بالنتيجة المديونية وتقلصت بذلك فرص التشغيل فإرتفعت نسبة البطالة والتمرد الشعبي وغابت كلياً سياسة تحقيق العدالة الاجتماعية بين الطبقات الشعبية والجهات الجهوية.
أما بخصوص الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في أغلب دول العالم التي كانت بمعظمها تعبر عن سخطها من هذه السياسات الفاشلة للرأسمالية فتمثل أبرز دليل على انهيار المنظومة الاقتصادية العالمية المندمجة في إطار العولمة والتحرر المالي والتجاري. فمطالب المحتجين تدعو دائما لتحقيق العدالة الاجتماعية وترفع شعارات التشغيل والكرامة الوطنية، مع تزايد الإضرابات الوطنية العامة لتحسين ظروف العيش.
فتطبيق مناهج الاقتصاد الرأسمالي من تحرر شامل وكامل على جميع قطاعات الدولة الحيوية خاصة منها الصحة والتعليم والنقل والاندماج في منظومة الخصخصة، لها إنعكاسات سلبية بعيدة الأمد على طبقات العمال الكادحة وأيضاً على الطبقات المتوسطة. بالتالي ساهمت هذه السياسات الاقتصادية الفاشلة التي تدعو لإعادة تأهيل القطاع الخاص والمزيد من التحرر في تأزم الأوضاع المعيشية لأغلب شعوب العالم، والتي كانت بالنتيجة السبب الرئيسي والمباشر في انفجار الاحتجاجات الشعبية منها لأصحاب السترات الصفراء بفرنسا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى مثل بلجيكا وألمانيا وأيضاً في بروز الأزمات المالية العالمية المتتالية.
* فؤاد الصباغ. كاتب وباحث اقتصادي تونسي
اقرأ/ي أيضاً: