وردة الياسين*
يبرع “صلاح” في الاحتيال على أطفاله الأربعة لإبقائهم على قيد الفرح، فهو يمارس ومنذ خمسة سنوات حيلة يوهمهم فيها بأن ما يرتدونه من ثياب في صباح أول أيام العيد، هي ثياب جديدة أشتراها لهم من أحسن المحلات وأرقاها، ويتشارك مع ” صلاح” في لعبة الاحتيال تلك زوجته ووالدته.
والدة “صلاح” الستينية و التي تأتي لتنظيف مكتبي مرتين في الأسبوع، كشفت لي عن تفاصيل حيلة ابنها، في وقت كانت الساعة تقترب فيه من الواحدة ظهراً في سادس يوم من أيام رمضان، حينها طلبت مني والدة “صلاح” المغادرة قبل أن تنهي عملها، فهي تريد أن تذهب اليوم إلى مشروع ” حفظ النعمة”، لتجلب منه ثياب العيد لأولاد ابنها “صلاح”. ويستثير فضولي هكذا مشروع فأطلب مرافقتها إليه.
في الطريق تقول والدة صلاح: ” الأطفال المساكين، يلبسون من مال الله من (عتقية ) ثياب الأخرين”، وتصف لي رداءة حالة ابنها المادية التي تزداد سوء يوماً بعد يوم، منذ قدومهم من حلب إلى انطاكيا التركية في أواخر 2013. وتزداد مواجعها وهي تحكي : ” لا عمل، لا دخل، وكيف يمكن لصلاح العمل وفي ظهره أسياخ وصفائح؟!، ولأنه بات يشعر باليأس والقهر، أصابه مؤخراً مرض السكري”. ويحاول صلاح كما تؤكد والدته أن يصنع فرحاً بسيطاً لأولاده في مناسبة كمناسبة العيد، فيبدأ وقبل قدوم العيد باقتطاع بضعة ليرات من المبالغ التي تصله من كرت الهلال أو من خلال بيعه لكراتين المعونة الغذائية التي قد يتحصل عليه بصعوبة، ثم يجمع ليراته تلك، ويبتاع فيها مع حلول العيد قطعة ثياب أو حذاء رخيص لواحد أو لاثنين من أولاده.
تشير “أم صلاح” إلى بناية مطلية باللون الرمادي، وتعلمني بأن الطابق الأول من تلك البناية هو مقصدنا. وتتضح لدي ماهية مشروع “حفظ النعمة ” ، فهو عبارة عن شقة تشغل ملابس قديمة بالية منها غرفتين، تمتلئ الغرفة الأكبر منهما بثياب للنساء والأطفال، أما الثانية فتم تخصيصها للثياب الرجالية. وكل ما استطعت معرفته عن ألية عمل هذا المشروع هو الشرح الذي قدمته لي أم صلاح عنه: ” جارتي أم فاضل الإد لبية هي من أحضرني إلى هذا المكان قبل ثلاث سنوات، حينها أعطاني الموظف هنا بطاقة تخولني بإنتقاء ما أريده من الملابس البالية أو المستعملة والتي يرسلها أهل الخير إلى اللاجئين السورين في أنطاكيا”. وتتابع وهي تبحث في إحدى السلال عن فستان لـ”بتول” ابنة صلاح الصغيرة: ” صحيح أن الثياب قد تكون مهترئة، ولكن كنتي زوجة صلاح (شاطرة) ستجعلها جديدة (خلنج) فمثلا”..” وتشير إلى فستان وجدته في السلة: ” هذا الثوب يناسب بتول ، ستقص والدتها أطرافه وتعيد خياطتها بمهارة”. وبعد ما يقارب ساعة من الزمن، وبعد عمليات تفتيش و (تنكيش) في الملابس المكومة، تنتقي أم صلاح حوالي ثمانية قطع من الثياب، أربعة أو خمسة منها كما تزعم تصلح لتكون ثياب عيد لأولاد صلاح، طبعاً بعد إعادة تأهيلها من تنظيف وكي وربما تدوير.
على باب البناية ونحن نهم بالخروج، تصافح وتعانق أم صلاح مجموعة من النساء، كن يتأبهن لدخول شقة ” حفظ النعمة”، علمت لاحقاً من أم صلاح أن هؤلاء النساء هن من حلب من نفس مدينتها ” الباب “، وعلمت أيضاً من حديثهن مع أم صلاح أنهن جئن لنفس الغاية، وهي الأمل بالحصول على ثياب لأولادهن أو لهن يلبسنها في أيام العيد. ” الجميع يقوم بنفس لعبة ابنك، ويحتال على فرحة ثياب العيد” أقول ذلك لأم صلاح وأنا أضحك في طريق عودتنا، فترد: “كان الله في عون الناس”.
حاملة كيس الثياب تبتعد عني أم صلاح ، أراقبها وهي تمضي بعد أن نفترق، أجزم بأنها تمشي وهي مبتسمة فغنيمتها اليوم ثمينة، وأشعر أنا بالدوار فجأة، إذ أتذكر بأن أم صلاح حدثتني ذات مرة عن محل الملابس الذي كان يملكه ابنها في حلب، وعن بضاعته المميزة والثمينة والتي كان يجلبها من تركيا.
كاتبة سورية مقيمة في تركيا
مواد ذات صلة:
رمضان في ألمانيا كيف يتعامل المهاجرون مع يوم الصيام الطويل وأعباء العمل والدراسة؟
“معيدين” في ألمانيا.. وقلوبنا ليست معنا
رمضان في الغربة: طقسٌ لترسيخ جذور الهوية الثقافية ورحلة الذاكرة لاسترجاع الماضي