منذ بداية ترددي على ألمانيا كنت ألاحظ منعطفات سلوكية بين العرب حول قضية اللحم الحلال.
فحين بدأت التدريس في جامعة مدينة كوتبوس عام 2010 (وهي مدينة ألمانية صغيرة قريبة من برلين)، كان عدد العرب لا يتجاوز خمسة أشخاص مع بضع عشرات من الطلبة في جامعة المدينة حيث كنت أدرّس. في هذه الأثناء تعلمنا الذهاب إلى المطاعم والمقاهي الألمانية وطلب ما يناسب مفهومنا للحلال والحرام من قوائم أطعمتها، أي تجنب الخنزير والخمور مع طلب البحريات والمعجنات والخضروات.
المفهوم الجديد عن “الحلال”
بعد موجة اللجوء ازداد عدد العرب في المدينة، وسرعان ما افتتح اللاجئون مطاعم شاورما ومحال تموين أغذية عربية ومقاصب صغيرة تبيع اللحم والدجاج. ومع توفر أماكن طعام “الحلال” بدأ العرب بالانسحاب التدريجي من المطاعم والمقاهي الألمانية لصالح مطاعم الحلال. شدّ انتباهي المفهوم الوافد مع القادمين الجدد عن “الحلال”، فكلما ازداد المهاجرون ومفهوم “الحلال” الجديد بيننا تناقصت نسبة اندماجنا مع الألمان بتقلص ارتيادنا لمطاعمهم واحتكاكنا معهم. أنا شخصياً وقعت في ذات الفخ وانتبهت إلى نفسي وما يحصل بي وأصدقائي من تغيرات وبعدها بفترة وجدتني حقا مرتبكاً من هذه الظاهرة.
وتساءلت؛ كيف لمقصدٍ طعاميّ أن ينجح في تعطيل مقصدٍ اندماجيّ في صيغة تواصل مجتمعي قرآني. أقصد الترغيب القرآني بالاحتفال بالتنوع البشري العولمي من خلال آلية التعارف كما أخبرنا الله تعالى: “… وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…” 13 سورة المجادلة.
فكيف يحرم الدين من جهة ذهابنا إلى مطاعم أهل الكتاب ومن جهة يطلب منا التعارف عليهم؟ فالتعارف لا يحصل إلا بالاحتكاك ولا يوجد أفضل من المقاهي والمطاعم للاحتكاك مع الشعوب والقبائل في الكرة الأرضية.
أسباب تحريم اللحوم الألمانية
ودفعتني حيرتي إلى مناقشة المهاجرين العرب عن أسباب تحريمهم للحوم الألمانية؟ فوجدتها قائمةً على عدة حجج منها أنهم أهل كتاب مثلثة، ومنها أنهم تاركين لنصرانيتهم ويهوديتهم، ومنها أنهم يصعقون البهيمة قبل نحرها آلياً.
لذلك قررت العودة إلى الآية الكريمة: “وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ…”3 سورة المائدة. بعد فترة من البحث والتقصي عدت إلى أصحابي المهاجرين وأخبرتهم أن تاريخ الديانات في جزيرة العرب وما جاورها يخبرنا أن النصارى كانوا مثلثة وقت التنزيل. فقد كانوا أهل صليب حينها وهم أهل صليب في يومنا فلم يختلف شيء. فكيف يمكن أن يكون هذا دافعاً لترك طعامهم حيث أنهم مثلثة سابقاً ولاحقاً؟
الأكثر إثارة أن الله تعالى في آية تحليل طعام الكتابيين لم يقل “أهل الكتاب” بل قال “أوتوا الكتاب”. فلو قال الله لنا “أهل كتاب” لاختلفت الدلالة كثيرا. فمفردة “أهل” تعني أن الكتاب أصبح جزء من حياة ومعاش الكتابي تماماً كأن يكون أهل الرجل (زوجته وأبنائه) جزءاً من حياته. فعندما يكون المرء من أهل التوراة أو الإنجيل فهذا يعني أنه قرأه وفقهه وعمل به وطبقه. فعند بطلان كونهم أهل كتاب (أي ممارسي محتوياته) فسينقطع شرط التحليل، فعندها يجوز إثارة الشك في حليّة طعامهم.
ولكن الله تعالى قال “أوتوا الكتاب” ولم يقل “أهل الكتاب”. ومعنى أن يقول أحدنا أن فلانا أوتي شيئا يعني جاءه ذلك الشيء ووصل إليه. فوصول كتاب إلي لا يعني البتة إنني قرأته أو حتى تصفحت أوراقه. فأوتي الكتاب لا تعني سوى أوتي الكتاب. وعليه فهذه المفردة لا تفترض أن من وصله الكتاب قد عمل به وطبقه. فمثل ما نحن أبناء من أوتي القرآن فهم أبناء من أوتي الكتاب وبيننا مشتركات جميلة ومنها أن طعامهم من خراف وبقر وماعز وبط ودجاج حلال يسمح لنا بالجلوس في مطاعم مشتركة لنحقق مقصد التعارف والتعارف هي اللفظة القرآنية لمفردة الاندماج المتداولة بيننا في ألمانيا.
هل نحن نرفق بالحيوان؟
أما بخصوص طريقة الذبح اليدوي أو الآلي أو الصعق الكهربائي فهي طرق نحريّة لم يقحمها القرآن العظيم ضمن الآية التي تحدثت عن تحليل طعام الكتابيين مما يجعلهما قضيتان مختلفتان. فقضية النحر اليدوي أو الآلي لا تقع ضمن دآئرة الحلال أو الحرام بل تقع ضمن دائرة أخرى.
فقد تطرق إلى هذا الموضوع الرسول ص فقال: “وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته” رواه مسلم. هذا الحديث يفتح ملف مختلف وآخر غير قضية الحلال والحرام وهو أمر الرفق بالبهيمة تحت مسمى “الذبح الإحساني”. هنا يمكن القول أن عقلنا الفقهي المتأخر سقط في فخ إدغام قضيتين مختلفتين ذاتي قاعدتين مختلفين في حكم واحد وكأنهما تندرجان في فقه المتشابهات والنظائر في حين أنهما من الفروق، وكان الفقيه أبو العباس أحمد المالكي القرافي ت. 684 هـ يحذر كثيراً من مثالب عدم التميز بين النظائر والفروق فقهياً. هكذا لم نأخذ بتحذيرات أهل الماضي فغاب عن وعينا قضية الرفق بالحيوان بطمرها تحت فكرة الحلال. فكأنما كل ما يهمنا اليوم هو أن يكون الذي يذبح يهل باسم الله بغض النظر عن بشاعة طريقة الذبح لأن الرفق أستتر مدغماً في سؤال الحلال وهذا من الخطأ.
وبالتالي ما يجب أن يكون عليه سؤالنا هو هل الذبح اليدوي أو الآلي ينقص أو ينقض الشرط الإحساني أم لا؟ فسؤال الإحسان في الذبح ليس سؤال في حلّيته من عدمه. وقرار الإنسان عدم تناول لحم حيوان تعذب في طريقة ذبحه ليس مرتبطا في كون لحم ذلك الحيوان حراماً بل بكون أن ذلك الحيوان لم يعامل معاملة إحسانية في ذبحه، فعندها نمتنع عن تناول لحمه احتجاجاً وتضامناً مع حقوق الذبيحة الإحسانية المنتهكة.
فمثلاً هذا رابط فيديو على اليوتيوب لرجل ارتكب مذبحة بشعة في حق مجموعة من الجمال (تحذير لا أنصح ضعاف القلوب من مشاهدته): طريق مدهشة لذبح الابل
ولكن لا يجد الكثير غضاضة من تناول لحم حصاد مجزرته بالرغم من انتهاكه لحقوق الجمال في ذبح إحساني. يحصل كل هذا في ثقافتنا الطعامية بسبب سقوط قضية الرفق عن وعينا.
من هو الجدير بالإجابة على سؤال توافر الرفق والذبح الحسن للبهيمة؟ لعجز الفقيه عن تتبع مشاعر البهيمية علمياً يحسن بنا تحويل السؤال من سؤال موجه إلي فقيه إلى سؤال موجه إلى أخصائيين بياطرة وإخصائيين في مجال علم النفس الحيواني ليخبرونا هل الصعقة الكهربائية قبل عملية الذبح الآلي أحسن بالبهيمة أم لا.
وسؤال هل رؤية ذبيحة لأختها وهي تذبح من الرفق أو إنه من التفزيع لها؟ عليه لابد من ذبح البهيمة دون رؤيتها لما حصل لسابقاتها. كل هذه الأسئلة يجب أن تجيب عليها الهيئات الأوروبية المعنية وجمعيات حقوق الحيوان وليس الفقهاء. على الجهات المعنية توفيركل هذه المعلومات للجماهير العربية المسلمة لكي تستوعب جيدا شق الرفق بالحيوان. لكي تفهم مقصد الصعق الكهربائي السابق على عملية النحر يضمن من ناحية إفقاد الوعي للبهيمة فيتحقق شرط عدم رؤية الذبيحة لما يجري ويضمن لها أقل شعور بألآم النحر، ومن أن هذا يحقق رغبات الرسول ص المدافع الأول لحقوق الحيوان.
العمل بهذا حتماً سيعكس وعي الجهات الأوروبية بالعقلية الدينية العربية الجمعية في أوروبا، والتي بفعل الوعي المتحصل ستضع العربي في درجة عالية من تقبل حكم بعض الدول الأوروبية التي منعت الذبح اليدوي لتضمن الانتقال إلى مستوى أرفع بالرفق بالحيوان.
كما يحسن بنا مراجعة لافتات المطاعم التي تنشر “يوجد لدينا طعام حلال” فوق المطاعم العربية في مدينتنا. فهي جملة غير دقيقة لأنها تتناقض مع القرآن بإيحاء أن اللحم في متاجر الألمان الذين هم من أحفاد الذين “أوتوا الكتاب” ليست بحلال. في حين أن وصف الحقيقة دون زيادة من مثل: “يوجد لدينا لحم نحره مسلمون” أكثر دقة.
بعد كل ما قيل علينا إعادة حساباتنا لإنزال شعار “لحمنا حلال ولحمهم حرام” من مخيلتنا فهي لا تنسجم مع القرآن طعامياً ولا اندماجياً ولا تعارفياً ولا رفقياً. والمعيار الذي يجدر أن نعمل به هو معيار الرفق بالحيوان والجودة والسعر والمتعة لاختيار مكان وجهتنا الطعامية. هكذا يستوي عندنا الاندماج مع الألمان في مطاعمهم والاندماج مع إخوتنا المهاجرين في مطعامهم وهكذا يرتقي حسنا المجتمعي في المدن الألمانية نحو صيغ تعارفية اكتشافية ممتعة جامعة غير طاردة.
د. محمد الزّكري. دكتور في الأنثروبولوجيا من البحرين يعمل في ألمانيا
اقرأ/ي أيضاً: