عبد الكريم الريحاوي
نظرا للأهمية المتزايدة للحقوق والحريات في الأزمنة الحديثة، وضرورة إقرارها وضمانها، وتنامي الالتزامات الدولية المتصلة بها، فإن الحقوق الأساسية للأفراد أصبحت مكونًا أساسيًا من مكونات المتن الدستوري، بل باتت تحظى بالصدارة داخل الدساتير، الشيء الذي يضفي عليها، على المستوى النظري على الأقل، طابعًا من الثبات والقوة والسمو، ويجعل آليات تعديلها أكثر جمودًا وصعوبة من آليات تعديل المقتضيات التقنية الأخرى، ويفرض انسجام جميع القوانين معها.
وإذا كانت الغالبية من الحقوق لا يثير إقرارها في النص الدستوري أي إشكال على العموم، فإن الحق في حرية العقيدة والضمير يجد مكانه بصعوبة، أو لا يجدها بالمرة بين المقتضيات المتعلقة بالحقوق والحريات في دساتير الدول التي تبني شرعيتها، إن جزئيا أو كليًا، على أساس ديني، والدول التسلطية ذات الخلفية الإيديولوجية التي تنبذ التعددية والاختلاف.
معنى ذلك، أن الحق في حرية الضمير يقع في مفصلين حاسمين ومتداخلين، هما مفصل العلاقة بين الدين والدولة، ومفصل العلاقة بين الفرد والأمة، ويبقى إقراره بالتالي رهينا إلى حد كبير بطبيعة هاتين العلاقتين.
وعلى هذا النحو، فإن تعامل الدساتير مع مبدأ حرية الضمير، وبالتبعية مع حرية التفكير وحرية الدين المتلازمتين معها، يختلف باختلاف السياقات والشروط التاريخية التي وضعت فيها هذه الدساتير والتصورات التي تحكمت في صياغتها والاختيارات الاستراتيجية لواضعيها.
الدستور الألماني كفل حرية العقيدة وحرية الضمير وحرية اعتناق أي دين أو مذهب فلسفي في الحياة الشخصية، فقد جاء في المادة الرابعة من القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية:
- لايجوز انتهاك حرية العقيدة، ولا حرية الضمير، ولا حرية اعتناق أي دين أو فلسفة حياتيه.
- تكفل الممارسة الآمنة للشعائر الدينية.
- لايجوز إجبار أحد ضد ضميره على تأدية الخدمة العسكرية المقترنه باستخدام السلاح، وتنظم التفاصيل بقانون اتحادي.
ماذا تعني حرية العقيدة أو الدين؟؟
حرية الدين والعقيدة من أهم الحقوق الواردة في شرعة حقوق الإنسان، ومع ذلك فهي تواجه تحديات كثيرة على الساحة الدولية وهناك الكثير من المفاهيم الخاطئة حولها، وعلى عكس ما يظن الكثيرون فإن حرية الدين والعقيدة:
لا تعني حماية الدين أو العقيدة من النقد أو السخرية، بل تعني حماية حق الشخص باعتناق هذا الدين أو العقيدة التي يؤمن بها.
وهي ليست مفهومًا ومصطلحًا غربيًا مسيحيًا يهدف إلى تدمير المجتمعات الدينية، فحرية الدين والعقيدة تعطي أفقًا أوسع للفرد للتعامل بتسامح من الجماعات الدينية المتعددة التي يعيش معها.
إذن، فالدستور الألماني شأنه شأن معظم الدساتير الأوروبية ودساتير الدول الديمقراطية، يحمي حق الأفراد والجماعات في الانتماء لأي دين أو معتقد، ويكفل حقهم في التعبير عن هذا الانتماء في ممارسة الشعائر الدينية بشكل آمن.
وتنسجم هذه الحماية مع المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان التي أولت الحق في حرية العقيدة وحرية الضمير اهتمامًا واضحًا، خاصة أن الكفاح من أجل الحرية الدينية قائم منذ قرون؛ وقد أدى إلى كثير من الصراعات المفجعة. وعلى الرغم من أن مثل هذه الصراعات مازالت قائمة إلا أنه يمكن القول بأن القرن العشرين قد شهد بعض التقدم، حيث تم الإقرار ببعض المبادئ المشتركة الخاصة بحرية الديانة أو المعتقد. وقد اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره”.
وقد تلى اعتماد هذا الإعلان محاولات عدة لوضع اتفاقية خاصة بالحق في حرية الدين والمعتقد إلا أن كافة تلك المحاولات قد باءت بالفشل.
كما أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، بالحق في حرية الدين أو المعتقد وذلك من بين ما أقره من حقوق وحريات.
وتنص المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أربع بنود بهذا الخصوص؛ وهي:
- لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.
- لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره.
- لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
- تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الآباء، أو الأوصياء عند وجودهم، في تأمين تربية أولادهم دينيا وخلقيا وفقا لقناعاتهم الخاصة.
وفي إطار تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان، خصصت اتفاقيات دولية ملزمة لتناول مادة واحدة أو أكثر من مواد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ولكن نظرا لتعقد الموضوع الذي تعالجه المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وللاعتبارات السياسية اللصيقة بموضوعها لم يصبح الموضوع الذي تعالجه هذه المادة محلا لاتفاقية دولية حتى الآن.
وبعد عشرين سنة من مناقشات وكفاح وعمل شاق تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بدون تصويت عام 1981 إعلانًا بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد سيشار إليه فيما بعد بإعلان 1981.
وإن كان إعلان عام 1981 يفتقر إلى الطبيعة الإلزامية ولا يتضمن النص على آلية للإشراف على تنفيذه، إلا أنه مازال يعتبر أهم تقنين معاصر لمبدأ حرية الديانة والمعتقد.
حرية الضمير:
تدل حرية الضمير على حرية الفرد في اختيار القيم التي تحدد علاقته بالوجود وبالحياة، وقدرته على تجسيدها باستقلال نسبي عن المجتمع. وما دام الدين من الأبعاد الأساسية لعلاقة الفرد بالوجود، كما أنه، في ذات الوقت، مظهر من مظاهر الحياة في المجتمع، فإن هذه الحرية غالبا ما تقرن بالحرية الدينية أو تتماهى معها كما لو كان الأمر متعلقا بمترادفين، وتطرح من زاوية الحدود الفاصلة بين نطاق الخيار الفردي وحدود الإلزام الجمعي. إنها حق المرء في أن يتملك ذهنه، كما جسده، يتصرف فيه كما يشاء ويفكر به كما يريد.
إن حرية الضمير تقع في منتصف الطريق بين حرية التفكير وحرية الدين. فحرية التفكير تعطي للفرد الأدوات الفكرية التي تسمح له بأن يُعمِلَ ضميره وأن ينتقي ويمارس، بحرية وتميز، اختياراته الوجدانية والدينية وقناعاته، بما فيها القناعات الدينية والإيمان من عدمه، بكل حرية واستقلال، وتسمح له، بعبارة أخرى، أن يبدل دينه أو يعتنق دينا آخر، أو أن لا يأخذ بدين من الأديان، دون أن يكون عرضة لأي حساب أو عقاب أو إقصاء، ودون أن ينتقص ذلك من مواطنته. ومعنى ذلك أن حرية الضمير تقوم أساسًا في النهاية على الفصل بين المواطنة والإيمان.
وتكمن أهمية حرية الضمير في أنها الشرط الضروري للاستقلال الأخلاقي للفرد ومنفذه الأساسي إلى الحرية. والهدف المتوخى من حرية الضمير، شأنها شأن حرية التفكير وحرية الدين، هو حماية التصورات التي قد يحملها كل فرد عن الحياة والمجتمع والمصير.
فهذه الحريات الثلاثة المتجاورة، -إن لم نقل متداخلة- دون أن تكون متماهية، هي التي تعطي للفرد الحق في ألا يفكر مثل الأغلبية، أو ألا تكون له نفس اليقينيات أو القناعات أو المعتقدات. إنها تتحد في موضوعها وموطنها من حيث كونها بمثابة “حريات للذهن”.
وتجد حرية الضمير سندها في كون الضمير مجالا فرديا خاصا لا يمكن السيطرة عليه، وكل محاولة للسيطرة عليه أو التحكم فيه لابد أن تفضي بشكل أو بآخر إلى العنف. فالذهن هو مجال الحرية بامتياز إن جاز القول. وممن أبدعوا في التعبير عن هذا الأمر سبينوزا إذ يقول: “لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسنة، لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، ولعاش كل فرد وفقا لهوى الحكام، ولما أصدر حكم على حق أو باطل، على عدل أو ظلم إلا وفقا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو، (…) لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر، إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغما عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء. وعلى ذلك فإن سلطة تدعي أنها تسيطر على الأذهان إنما توصف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما تحاول أن تفرض على كل منهم ما يتعين عليه قبوله على أنه حق، وما يتعين عليه رفضه على أنه باطل، وأن يفرض عليه المعتقدات التي تحثه على تقوى الله. ذلك لأن هذه الأمور تعد حقا خالصا بكل فرد، لا يمكن لأحد، إن شاء، أن يسلبه إياه…. ويضيف توضيحا لأهمية إقرار حرية من قبيل حرية الضمير باعتبارها من الأسس التي تقوم عليها الدولة ومن الغايات والحوافز التي تشد بنيانها أن “الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الكائنات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم لكي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن، هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة.
ويتجلى احترام الدول والحكومات الديمقراطية لحق الأفراد في حرية الضمير بالفقرة (3) من المادة الرابعة من الدستور الألماني “لا يجوز إجبار أحد ضد ضميره على تأدية الخدمة العسكرية المقترنه باستخدام السلاح”، فمن حق المواطن الذي تتعارض تصوراته ومبادئه في الحياة مع حمل السلاح والمشاركة في أعمال قتالية أن يعترض اعتراضا واعيا على التحاقه بالخدمة العسكرية الإجبارية (الاعتراض الواعي هو الاعتراض المنطقي والمبرر) لأن ذلك من شأنه تدمير القيم والأفكار التي يؤمن بها، وقد أقرت المفوضية العليا لحقوق الإنسان الاعتراض الواعي على الخدمة العسكرية كممارسة مشروعة لحق حرية الفكر والضمير والدين (قرار رقم 19993/84). ويحث القرار الدول الأعضاء التي تكون الخدمة العسكرية فيها إلزامية على استحداث أشكال بديلة من الخدمة العامة لمن يقدم اعتراضا واعيا على الالتحاق في الخدمة العسكرية.
في النهاية لابد من الاشارة إلى أن موقف الدساتير العربية والإسلامية من حرية الضمير والمعتقد يرتبط باختلاف درجة ارتكاز الحكم على الإسلام، ودرجة اتخاذ الإسلام معيارا ومرجعا لنظام الحكم وأسلوبه، وبالتالي فإنه لا يأخذ بعين الاعتبار الفرد وحرياته الشخصية ولا يعتمد على تصور صحيح للمواطنة.
إن إقرار حرية الضمير على وجهه الصحيح، باعتباره شرطا لازما للعيش المشترك والمواطنة السليمة والازدهار الحر للأفراد، يصطدم في البلدان العربية بنزوع الاتجاهات المحافظة سواء في مواقع الحكم أو خارج دائرة القرار إلى ادعاء شرعية التحكم في العقول والأذهان من منطلق اعتقادها امتلاك الحقيقة، وشيطنة كل تفكير أو اختيار أو منطق خارج نطاق تفكيرها واختيارها ومنطقها.
وإن عدم إقرار هذا الحق ليؤدي إلى تكفير التفكير وتحويل التفكير الحر إلى رهينة وهدر كيان الفرد.
مقالات ذات صلة
الحرية الشخصية، المادة الثانية من الدستور الألماني
كرامة الإنسان – المادة 1 من الدستور الألماني