أمل فارس
لنتَّفق بدايةً أنَّ أيَّ بلدٍ يفتح لك أبوابه ويوّفر لك أساليب العيش الكريم، من تعليمٍ وفرصٍ للعمل والتّملّك وإن لم يكن موطنك الأصليّ، سيجعلك تشعر بعد مضي السَّنوات بأنَّ جزءًا منك قد تعلّق به تلقائيًّا كوطنٍ بديل، فتغدو قادرًا على فهمه واستشعار نبضه، وستحاول الاندماج فيه إن أمكن.
عمليًّا نضجتُ هنا، ففي سنِّ السّابعة عشر يخلقُ الدخول في مجتمعٍ جديدٍ تعديلاً على طريقة التّفكير والسّلوك، إذ ما زالت هنالك بضع صفحاتٍ قابلةٍ للامتلاء، كما أنَّها سنٌ حرجةٌ للاختلاط بمجتمعٍ مختلفٍ كليًا عن مجتمعنا العربيّ. فعليًا لم أتنبه إلى عمق تأثيره ذاك إلا عندما عدت إلى سوريا بعد سنواتٍ من الانفصال عنها، حينها لم أكن العربيّة التي غادرت، ولا تلك المقيمة في أمريكا الجنوبية، صرتُ مزيجًا منهما معًا، مما حدَّ من حرِّية سلوكي، فاكتفيتُ بالمراقبة وسط العجز عن ترجمة قناعاتي الجديدة كفعل، لصعوبة أن تتَّفق مع المجتمع الذي ولدتُ فيه.
بالمقابل بقي اندماجي هنا جزئيًّا، واتّسمت تجربتي بالاختلاف عنها لفتاةٍ وُلدتْ لأسرةٍ عربيةٍ ودرست علوم المجتمع، تلك سيكون اندماجها أعمق بلا شك. حيث تعاملتُ مع فئاتٍ متنوعةٍ، ابتداءً بجيراني والأشخاص الذين عملتُ معهم، بالإضافة إلى أصدقاءٍ ومعارف من أصولٍ أوروبية. باختصار كان الاختلاط متواصلاً وفعالاً وسط مجتمعٍ يتَّسم بالانفتاح على مختلف الأعراق، لكنَّ حاجزًا ما كان يعيق الوصول إلى اندماجٍ فعليّ، حدودٌ لا تُلمس لكنَّك تشعر بها، ساعد على خلقها نظرة كلٍ من المجتمعين لمعتقد الآخر بتحفظٍ واستغراب، فاقتصر الاحتكاك على الأمور الظاهريَّة مع احتفاظ الطرفين بوجهة نظرٍ ثابتةٍ حيال الآخر.
وأعتقد أنَّه ما من اندماجٍ كاملٍ للعرب هنا إلا فيما ندر، إنَّه تعايشٌ أكثر منه اندماج، فظاهريًّا هنالك تأثّرٌ واضحٌ يبدأ باللغة واللباس، ثم بكيفية التعاملات والمعيشة ونوعيّة الطعام وطبيعة الاحتفالات وغيرها، لكنّ الأمر أكثر تعقيدًا في الواقع، فالمفاهيم الثقافية والدينية مختلفةٌ تمامًا بين المجتمعين، وإذا قرَّر شخصٌ ما الاندماج في المجتمع المضيف فذلك قد يعني انفصاله المؤقت أو النهائيَّ عن محيطه العربيّ، مثالٌ على ذلك: إقدام شابٍ عربيّ على الزواج من فتاةٍ ذات أصولٍ أمريكيةٍ أو أوروبية، عندها قد تقاطعه عائلته لفترةٍ معينةٍ كوسيلة ضغطٍ اجتماعيّ، أمّا في حال أقدمت فتاةٌ على ذلك فإنّ الأمور قد تتجه نحو القطيعة الأبدية أو التَّبرؤ منها، فما يمسُّ الكيانَ الاجتماعي للمرأة مازال موضوعًا حسّاسًا لا يجوز طرحه علنًا أو تداوله من قبل الآخرين، وهي بالمقابل تخضع لسلطةٍ ذكوريةٍ تحدُّ من حرِّيتها وتنتهك حقوقها كفرد، بدافع حمايتها من خطر المجتمع الغريب، وهنا يختلط مفهوم الحماية بمفهوم تقييد الحرِّيات وانتهاك الخصوصيَّة في التَّفكير العربي.
وهذا لا يعني أنَّ المجتمع الغربيَّ خالٍ من العيوب، إنّما هو حرّ، وذلك يُكسبهُ سماتَ التَّفوق والتقدّم في نواحٍ عدّة، لكن بالمقابل؛ لا ينزع عنه أُخرى كالفوضى والعنف، ففي فنزويلا مثلاً تتمتّع المرأة بكامل حرّيتها وبمراكز قيادية في المجتمع، لكن الإحصائيات تكشف في المقابل عن أرقامٍ مخيفة لضحايا العنف الاجتماعيّ.
المجتمعات الإنسانية بمعظمها حبلى بعيوبٍ أكثر ممّا تتحمّل، وهنا يبرز دور القانون في توجيه سلوك أفرادها، ففي البلدان العربيّة على سبيل المثال، ما زال القانون يُكرّس الشريعة القبلية بوضعه عقوباتٍ مخففةً لما يدعى بجرائم الشَّرف، وإن لم تلغَ عبارة “جرائم الشَّرف” من نصِّ القانون وتُستبدلَ بعبارة “القتل العمد” ويعامل مرتكبها على هذا الأساس، فسيبقى القانون مشوهًا، فوحده القانون قادرٌ على كبح السّلطة المجتمعية الصّارمة التي تلعب دورًا ضاغطًا ومفصليّا في قرارات الفرد العربيّ، في حين ساهم خضوع المجتمعات الغربيّة (المضيفة) للقانون بندرة تلك الجرائم في المغتّرب.
من الصَّعب أن أشرح شعوري، ومثلي كثيرون هنا، أحمل ازدواجيةً فكريةً، بأيّ واحدةٍ أعبّر يا ترى وأنا أنجذب لأفكارٍ معينةٍ من كلا الجانبين؟ فكيف سيتوازن التصرّف وأين يمكن أن يُترجم الفكر الناتج من اتحادهما إلى فعل؟ وماذا عن البيئة الملائمة لتجسيده؟.
وأولادنا كذلك يعانون هذا الارتباك، وبالتَّالي هم أيضًا بحاجةٍ لبيئتهم الخاصّة المختلفة باحتياجاتها، بينما ما هو متاحٌ حقيقةً: مجتمعٌ وحيدٌ لشتَّى الانتماءات. مع الإشارة إلى أنَّ المجتّمع العربيّ في المغترب مازال مكرسًا لعاداته ومعتقداته التي حملها المهاجرون معهم منذ بداية وصولهم منتصف الثمانينيات. وما يزيدُ الوضعَ تعقيدًا هو إنكاره لضرورة التغيير التي يفرضها نشوء جيلٍ جديدٍ يحمل أفكارًا أكثر تطورًا ومرونة، كمن يريد خوض النّهر دون أن تبتَّل ثيابه، فلا يُعير الوضعَ العام أيّ أهميةٍ بينما يشدِّدُ على مسؤولية الفرد تجاه عاداته وتقاليده، متجاهلاً أنَّ جيلاً كاملاً يقوم بمقارناتٍ فكريةٍ منذ أيَّامه الأولى في المدرسة بين عالمين مختلفين بمعتقداتهما، مكوّنًا فكره الخاص الذي سيظهر بالضّرورة على شكل فعلٍ متطورٍ عن تعاليمه القديمة، إن سُمح له بذلك، لكن ما دامت علاقة الفرد العربي بمجتّمعه علاقة تناحرٍ بين آمرٍ ومأمور، مع إلغاءٍ تامٍ لثقافة الفرد، فالوضع سيبقى على ما هو عليه، وستستمر الهوّة بالاتّساع بين ما يعيشه الجيل في الواقع، وبين ما تتطلّبه الطَّاعة المجتّمعية التي ترى في في الاندماج تجسيدًا لحالة التَّفكك المرفوضة سلفاً كمعيارٍ سلبيّ من منظار المجتمع العربيِّ. بينما تُدعم هذه الصِّفة بقوَّةٍ في المجتّمعات الغربيّة تحت مُسمى (الحرَّية)، فالتّسميات هي من تصنع الفرق.
التفكير العربيُّ أينما وجد مازال يَحلُمُ بحريةٍ مفصّلةٍ على مقاس العادات والتقاليد والمكانة الاجتماعيّة والسّلطة المطلقة، غير مدركٍ بأنَّ ما يبغيه حقيقةً هو النِّصف المسؤول منها، فالحرِّية الكاملة هي في التزامها وتكاملها مع المسؤولية، فحرية ٌدون مسؤولية (تسكعٌ مؤقت)، بينما المسؤولية دون فرصةٍ للحرِّية ليست سوى (عبودية دائمة).
**
هامش:
سألتني ابنتي عن رديفٍ لكلمة (مُسَايَرة) العاميّة، بالّلغة الإسبانيّة، فأجبتها “المعاملة الحسنة”!، لكنَّ جوابي لم يقنعها، فمن وجهة نظرها المعاملة الحسنة لا تستدعي التّزييف في المشاعر كما تراه في المعنى العربيِّ للكلمة، ومع الوقت تكرَّرت الأسئلة والأجوبة لم تقنعها، قالت أخيرًا بأنَّ الأمر “لا جدوى منه” هناك اختلافٌ كبير..