حسام قلعه جي*
عندما تتصل أمي على الواتس آب من دمشق فإن أولى جملها تكون: “أكيد غرفتك زبالة وعم تنام من دون أن تغسل قدميك..” وقبل أن أجيبها تكمل: “أكيد الأطباق القذرة في المطبخ مكدسة فوق بعضها، والغبار على الأرض وملابسك متسخة.. ليش مابتحطهن بالغسالة، شو بتخسر؟”
وأفكر.. كيف يمكن للأمهات أن يبقين متمسكاتٍ بهذه الخصوبة في الحياة رغم قذارة الحرب وعدميتها.
أمي امرأةٌ مهووسة بالنظافة، فهي تلمع زجاج النوافذ تزيل الغبار مراتٍ عدة في اليوم الواحد، وفي جيب مريولها لا تجد إلا الخرق وكيس مسحوق للتنظيف، وعلى كتفها دوماً منشفة صغيرة للحالات الطارئة.
تستخدم أنفها في كل شيء؛ فهي تشم الغسيل الذي قد ترميه في الغسالة مجدداً لأن رائحته لم تعجبها، تشم رؤوسنا في الصباح والمساء، وعندما أصبنا بالقمل حلقت لنا شعرنا بيديها ورشت عليه “بف باف” وصارت تواسينا ونحن نقفز ونحك رؤوسنا قائلةً: “معليش منشان يموت القمل”.
وعندما ذهبت لتخطب لأخي الكبير كانت تريد العودة قبل أن تدخل إلى دار العروس وفي الطريق قالت لأخي: إذا نزلت السماء على الأرض لن تخطب تلك البنت.. رائحة بيتهم طالعة..
عندما تعود أختي من المدرسة تشم شعرها وتتأفف من أن الأستاذ ما زال يدخن في الصف! وإذا رجعت من السوق تتجه مباشرة إلى الحمام قائلة: طلعت ريحتنا.
أمي خبيرةٌ بالكلور الذي تسفحه على إسفنجة الجلي، وكلما قلت لها إن هذا الكلور سيقضي علينا ذات يوم فإنها توبخني وتنعتني بالأهبل قائلةً: “هي آخرة المدارس.. الله يعينك على عقلك، لك يا إبني لو لم يكن الكلور مفيداً لما خلطوه بمياه الشرب”.
في الحرب الدائرة في الوطن منذ سنوات لم تفقد أمي امتيازاتها المتعلقة بالروائح، فهي تستطيع أن تقف مساءً على شرفة دارنا لتحدد نوع الأسلحة المستخدمة في المعارك التي تجري في الأحياء القريبة، فتقول لأخي الصغير: “انزل لعند الجيران بسرعة وقل لهم: كلور.. أغلقوا النوافذ.. كيماوي سدوا الثقوب.. قل لهم أن يناموا مطمئنين اليوم فلا يوجد غير رائحة البارود.” هكذا تشارك أمي في الحرب كطائرة إنذار مبكر متخصصة بالروائح.
عندما تمسح أمي الأرضية، يتوجب علينا إن سمحت لنا بالذهاب إلى المرحاض أن نمشي على رؤوس أصابعنا ضمن خطوط محددة لئلا نترك آثار أقدامنا على الأرض. هذا أمرٌ لا تتهاون به أمي أبداً.. تنظر من أول الغرفة باحثةً بين البلاطات عن بصمة هنا أو هناك، وإن حدث ورأت ذلك فإن أول ما نمسكه براحاتنا هي مؤخراتنا.
في رحلة لجوئنا وكلما اجتزنا بلداً إلى آخر كانت أمي دوماً حاضرةً معنا، نمشي على رؤوس أصابعنا فوق الخرائط ولا نخرج أرجلنا خارج الخطوط المتعرجة للحدود بين الدول حتى لا نفسد البلاط النظيف بأرجلنا المشققة من ماء البحر المالح. على الأقل لا يمكنني أنا أن أفعل ذلك أبداً فأمي تراقب خطواتي من بعيد.. ترش الكلور ورائي وتلوح لي بمكنسة القش في يديها الذائبتين.
أحتفظ في موبايلي بصورة للمطبخ يبدو فيها مرتباً ونظيفاً لأنني دائماً تحت التهديد والمراقبة، وكلما طلبت أمي صورة مباغتة للمطبخ أرسلتها لها مع صورةٍ أخرى لزجاجات كثيرة ومتنوعة من الكلور على المجلى.. عندها فقط أعلم أنها ستستطيع النوم مبكراً.
حسام قلعه جي. كاتب من سوريا
اقرأ أيصاً للكاتب:
بسكليتة كورس 83
اقرأ أيصاً:
عندما تفرطُ الحرب رُمّانَها
خوفٌ مؤنث على هامش الحرب والمنفى
سوف أروي – عن الحرب إقليم الموتى