منذ زمنٍ بعيد لا أتذكر متى بالضبط بدأت أدور حول نفسي، أترك العنان لفكرةٍ واحدة أن تتملكني أو أتملكها، فلا أخطو عنها قيد لحظة، وأستمر في الدوران، أحيانًا بعينين مغمضتين وأحيانًا بعيونٍ ألفٍ مفتوحة، لا لشيء إلا للسبب الوحيد المتوقع، وهو ألا أفكر فيما يجب أن أفكر به.
تعبت كثيرًا في البداية، مرنت نفسي وفشلت، ثم عاودت المحاولة مرارًا وفي لحظةٍ لم أميزها نجحت. منذ أيامٍ فقط انتبهت إلى أنني أرتكب ذلك لسنوات، وانتبهت إلى أنني نجحت دون أن أكافئ نفسي، ولم أنتبه لكل الأفكار التي فاتتني خلالها.
فيلم قصير جدًا
تقصدت طبعًا أن أبدو بعيدة المنال، لم أرد يومًا أحدًا بقدر ما أردته، كل ما فيه كان يشعلني رغبة وحنانًا، وقشعريرة تسري تمامًا في كل مسام ظهري حين أسمع خشخشة مفاتيحه وهو يعبر تحت شباكي. لم تلِ ذلك مشاهدُ كالتي عبرت الأفلام والمسلسلات والأغاني التي شاهدتها طوال حياتي. كان ذلك مشهدنا الوحيد والأخير.
وأنا أكبر
كانت لدي رغباتٌ يوما ما، كنت أشتهي الحلوى، وأتمنى أن أكبر وأصبح شيئًا ما، كنت أستمتع بالتفاصيل كما حين أشرد في السقف أو أتمشى مساءً لوحدي أو أتسوق، كنت أثق بأنني فقط أتسلى بما لدي حاليًا وهو قليل، لأن الكثير الآتي سيأتي. أشتهي اليوم أن أشتهي أي شيء.
+18
أردت أن يقبلني أحد، وكان سهلاً أن أُقعَ في وهم الغرام فقط لأُلمَس، أنهكتني قصائد الحب العذريّ والحبيب الأولِ، حتى مزقتها كلها. الجار كان تجربتي الأولى، قبلة واحدة ثم هرعت أرتجف كخصلة، زميلي في الجامعة تركت يده تعبر تحت ثوبي، حبيبٌ عابر في رواية جيب. وها أنا مرةً أخرى لا أقع في الغرام بل أعيشه.
بعد زمنٍ طويل
نظرت في المرآة وأدركت في لحظة انعتاقٍ خالص أنني كبرت، تجاوزت الأربعين، اقتربت من أمي أكثر، من الجميلات العابرات في الطريق، ومن أولئك “العانسات” الوحيدات، في لحظةٍ عبرتني على غفلة، كنت أغسل وجهي ولمحتُني في المرآة … لستُ أنا، إنها تلك التي تكبرني بالعمر كثيرًا.
“جميعنا معًا على دروب الجزيرة”
فقط جيل الثمانينات تسري في جسده قشعريرة عند سماع أو قراءة هذه الكلمات، رغم أن أحدًا لم يتخيل يومًا أن تكون تلك الرحلة المثيرة التي نشأ على تخيلها ذاك الجيل، هي رحلةٌ لمنفى لا إمكانية للهرب منها.
الآن هنا
مللت من أحاديث الاندماج وتحليلاته وتعريفاته، ومن قصص اللجوء ومتاعب الفارين، ما عدت أحتمل ما على كاهلي من قلق منغرز في الشرايين، حتى صار يومي مجرد عبور بين اختناقات الأوردة، ولا أدرك السبب الذي يجبرني على اتّباع منطق القبول، لم أكن قدرية يومًا، ولكنني اليوم محاصرة في فخ الآخرين، ما عدت آبه لأسباب هذه التغريبة ولا “على مين الحق”، ولا أريد ثأرًا، ولا أن تعود الأشياء لما كانت عليه، فببساطة ما عدت أذكر حتى ما كنته أنا، توارى ماضيّ في ازدحام حاضري.