ليليان بيتان*
قبل أربع سنوات، وبينما كنت أعيش في الساحل الشرقي لأستراليا، أصبحت شبه منفصلة عن موطني. كانت ألمانيا تبدو عالمًا آخر بالنسبة إلي. عالمًا لم أكن أنوي العودة إليه. وبينما كنت أتحدث اللغتين الإنجليزية والفرنسية حصريًا، بدأ إلمامي بالألمانية يضعف تدريجيًا. أذكر بشكل خاص حديثًا مع والدتي عبر سكايب كنت أخبرها خلاله أني مرضت الشهر الفائت ولم أستطع إيجاد الدواء المطلوب في الصيدلية. وهنا، حاولت مرارًا تذكر معنى كلمة “صيدلية” بالألمانية، ولكني فشلت. غني عن القول إن والدتي صدمت، وحثتني على العودة لدياري.
كان كل أصدقائي آنذاك من الأستراليين، باستثناء طاهٍ ياباني ومعماري بنغلادشي ومصمم غرافيك إيطالي. كنت أعمل في مخبز فرنسي صغير لتسديد إيجار منزلي، وأثناء عملي كنت أرتدي فساتين مزهرة وأتظاهر بأني فرنسية. لم تكن هذه الكذبة بعيدة كل البعد عن الحقيقة، فقد كنت في الواقع قد أقمت ثلاث سنوات في باريس أثناء دراستي.
ولكن، عندما يسألني الغرباء من أين أنا، كنت دائمًا أجيبهم أني ألمانية، وأن والديّ يعيشان في بلدة صغيرة في بافاريا، ولكن ليس في مدينة ميونخ، بل في بلدة اسمها “بايرويت”. لم أكن أفاجأ عندما لا يعرفونها، فهي صغيرة جدًا، كما أني لست لبنانية، فأنا من “بايرويت” لا من “بيروت”، وهناك فرق بين الاسمين. رغم ذلك، كنت أعيش بشكل أساسي في باريس قبل انتقالي إلى ملبورن، لذا كنت أشعر أني فرنسية أكثر مما أنا ألمانية. أو ربما أوروبية، وهذا منطقي أكثر. لكن هذا لم يكن بالموضوع الشيق، ولذا كان النقاش يتوقف هنا عادة.
بصراحة، كوني ألمانية لم يكن بالأمر السار عندما أضطر للإجابة عن سؤال “من أين أنت؟” عشر مرات في اليوم على الأقل. منذ أربع سنوات، كان التعليق الفوري على ردي “أنا ألمانية” كان إما سؤالاً آخر: ميونخ؟ برلين؟ أو تعليقًا من نوع “أنتم تصنعون سيارات ممتازة.” أو “هتلر! يا له من شخص عظيم!” من الواضح أن التعليق الأخير كان الأشد إيلامًا بالنسبة لي، فمجرد افتراض أي شخص أني فخورة بهذا الطاغية المتوحش يجعلني أرغب في إجبار هذا الشخص على ابتلاع كتاب التاريخ حتى يهضم كل معلومة فيه عن الحقائق المرعبة للنازية والحرب العالمية الثانية والهولوكوست.
لذا، كان من السار بالنسبة لي أن أبدو فرنسية. لكني في أعماقي كنت أعرف أني لست كذلك، وأن انتمائي الوحيد هو ببساطة أني أوروبية.
كواحدة من الذين ترعرعوا في أوروبا في فترة ما بعد الحرب الباردة، حيث كان الشرق والغرب يقتربان أكثر كل يوم، وفي فترة العمل على الصيغة القانونية للاتحاد الأوروبي وتشجيع التبادل عبر الحدود، لم أكن الوحيدة التي تطور في أعماقي شعور قوي بالارتباط بقارتي. كان كثير من الأوروبيين الشباب، الذين يجيدون اللغة الإنجليزية وغالبًا إحدى اللغات الأجنبية الأخرى، يتحركون بحرية بفضل رحلات إيزي جت الرخيصة وبرامج الاتحاد الأوروبي مثلا برنامج “إيراسموس” للتبادل لطلبة الجامعة. لو كنت برتغاليًا/برتغاليةً وعشت في إسبانيا وبولندا وفرنسا وبريطانيا لعدة سنوات، فسوف تصبح/ين في النهاية أوروبياً/أوروبيةً أكثر وبرتغالياً/برتغاليةً أقل دون شك.
عندما سئمت من العمل في المخبز الفرنسي في ملبورن، عدت إلى أوروبا. لم يكن العيش في ألمانيا مجددًا خياري في البداية، ولكن عندما عرضت علي صديقة غرفة في شقتها في برلين، اتخذت هذه الخطوة. كانت تلك المرة الأولى منذ نحو سبع سنوات التي أعيش فيها في موطني مجددًا. لم يمكن بإمكاني اختيار مكان أفضل من برلين، لأنها بصراحة ليست ألمانية بالفعل. قبل الانتقال إلى هنا، لم أكن أعرف كثيرًا عن الحرية غير المنضبطة التي توفرها هذه المدينة، فالتدخين في البارات كان أمرًا طبيعيًا في ضواحي برلين الجنوبية الشرقية المرغوبة. وإذا كنت ترغب، يمكنك زيارة نادي “تكنو” بعد الغداء يوم الأحد. لا أحد ينظر لك باحتقار إذا عبرت الشارع بينما كانت الإشارة حمراء. لا يوجد مطاعم ألمانية تقليدية، وعوضًا عن ذلك يمكن تجربة أفضل الأطباق من تركيا ولبنان والصين والهند والمكسيك وأثيوبيا. من المدهش كيف يستطيع أي كان أن يصبح برلينيًا بسرعة فائقة، وأنت بالتأكيد لا تحتاج لأن تكون ألمانيًا بالأساس لتفعل ذلك.
بعد سنتين من انتقالي إلى برلين، ما زال شعوري هو أني أوروبية. أصبحت أتحدث الألمانية أكثر مما كنت أفعل في ملبورن، وهذا طبيعي، وبالتدريج عادت كلمات مثل “صيدلية” إلى ذاكرتي. ولكن، يناسبني تمامًا أن أبقى أوروبية بقية حياتي.
حتى صيف عام 2015، كنت قد كتبت عدة تقارير عن حالة اللجوء في أوروبا وما حولها وكان لدي بعض الأصدقاء السوريين، لذا فإن “صيف الهجرة” لم يفاجئني بقوة كما فعل بآخرين.
رغم ذلك، عندما رأيت صور آلاف المتطوعين الألمان يساعدون السوريين القادمين حديثًا إلى البلاد، أدهشني حجم التعاطف والرغبة في المساعدة لديهم. وشكّل عدد المؤسسات والمبادرات والمنصات التي نشأت في الأسابيع والأشهر التالية بهدف اندماج اللاجئين في المجتمع الألماني مفاجأة إيجابية. بمقارنة تجاوب ألمانيا مع “أزمة اللجوء” بالصد وإثارة الذعر في أغلب دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، شعرت فجأة وبشكل غريب بالسعادة لوجودي في ألمانيا، وربما أيضًا بالسعادة لكوني ألمانية.
اتخذت أنغيلا ميركل لأول مرة قرارًا جيدًا، وكان قسم كبير من الشعب يدعمها، وكان باستطاعي أن أشارك أيضًا. في الأشهر اللاحقة عندما سافرت إلى الهند لزيارة أصدقائي، كنت أجد رد فعل مختلف عندما أقول إني “من ألمانيا”. سواء أكنت في مطعم محلي، أم في مؤتمر دلهي للرسوم الكاريكاتيرية، أو في بيت أصدقاء، كنت أتلقى التهاني من الهنود على الاستجابة الألمانية الإنسانية لأزمة اللجوء. لم أكن بالطبع أتفق تمامًا مع هذه النظرة المتفائلة للغاية، ولكني كنت سعيدة لأن اسم هتلر لم يكن أول ما أسمعه عند ذكر جنسيتي. في أحاديث لاحقة، كنت أناقش كأوروبية، ولكني في نفس الوقت كنت أعرف أني ألمانية، ولم يكن ذلك بالأمر السيئ.
تغير الكثير منذ ذلك الوقت. تلاشت بالتدريج الحماسة حول سياسة ميركل الخاصة باللجوء، وبدأت الحسابات الإدارية والمالية تحل محل الأحاديث حول الاندماج، ولمست بنفسي الفوضى العارمة في أنظمة الهجرة واللجوء والمساعدات الاجتماعية الألمانية، كما تم عقد صفقات قذرة مع تركيا وبدأت الحركات المعادية للمسلمين تكتسب زخمًا، إلى حد دفع بالمستشارة الألمانية للنأي بنفسها عن الجملة الشهيرة التي أطلقتها في السابق “نحن نستطيع ذلك”. لم يعد من المؤكد فيما إذا كنا نستطيع ذلك، أو كيف سنفعل ذلك، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يفضلون التشاؤم تجاه وضع ألمانيا والعالم حاليًا.
قد تظنون أنه من المؤسف أن أكون على وشك خسارة حبي لهويتي الوطنية، هذا الحب الذي استعدته منذ فترة بسيطة فحسب. ولكن، رغم أن “ألمانيتي” المتبرعمة قد تلقت ضربة قوية في الأشهر الأخيرة، إلا أنها صمدت بشكل ما ضمن الإطار الأوسع لمواطَنتي الأوروبية. من المؤكد أنها تحتاج إلى المزيد من العمل، ويبدو أن من المقدر لها أن تبقى متداخلة، غير واضحة الحدود.
ولكن، لا شيء من هذا يزعجني. حتى لو كنت “ألمانية بشكل واضح”، فأنا لا أعرف ماذا أفعل بهذا الشعور. وبرأيي، فإن الهوية الوطنية مسألة مبالغ في تقديرها. في عالم مثالي، ينبغي أن نتمكن جميعنا من الاحتفاظ بكل الهويات التي نشعر أننا بحاجتها، وأن تكون جنسية أو جنسيات المرء مجرد قطعة في أحجية أكبر بكثير. في حالتي أنا، هناك عدة قطع في الأحجية، وكل قطعة لها مكانها. إحداها أوروبية، والأخرى ألمانية، وثالثة قد تكون فرنسية، والأهم، ألا وهي البرلينية. حاليًا، أقضي وقتًا ممتعًا باللعب بكل هذه القطع.
*صحافية ألمانية، محررة القسم الألماني في صحيفة أبواب.
*ترجمة دينا أبو الحسن