عبد الله حسن – أشعرُ بالغربة في ذاتي قبل كل شيء.. هكذا أحبّذ أن أبتدئ شهادتي الأولى هذه لدى جريدة «أبواب»، وبهذا العنوان الكلاسيكي الجميل؛ ولهذا أكتب ربما عموماً.. يسمّيها البعض «مقالاً» وآخرون يستخدمون كلمات من قبيل (خبر، تقرير، تحقيق، بحث) في إشارة إلى تصنيفات أخرى، وثمة من يستخدم «قصة» أو «رواية»، والبعض الآخر يختزل فيقول الـ «شعر»؛ على أية حال.. الجميع يَشهد على نفسه، وعلى العالم من حوله، وهكذا خُلقت الفنون والآداب في اليوم الذي تلى خلقنا مباشرةً، بعدَ الموسيقى والصمت، وقبل الضجة والصراخ بلحظات.
في كتابه «الوجيز في تاريخ» الموت، يذكر دوغلاس ج. ديڤيس أن الإنسان حين أوجد الكتابة قبل آلاف الأعوام كانت بالنسبة له المحفظة التي خلّدت تراجيديا حياته .. وآليّة دفاعية وَقَتْه إلى حدٍ ما خوفهُ المتعاظم من خوض تجربة الفناء المادي.
غودار في أحد أفلامه الجميلة يذكّر بأن هوميروس شاعرَ الإلياذة والأوديسة لم يكن له من الحرب شيء، كان أعمى، والجميع يعلم هذا.. إلا أنه كان لسانَ قومه، وتحدّث عما أرادوه؛ لهذا تبلغ الكتابة تأثيرها الأكبر ربما حين تَشهد على مافي داخلك أولاً، وتخبرك عن مقدار ما أنتَ عليه من صحة وعافية مقارنةً بالكاتب نفسه ثانياً… نزعة بشرية من قبيل ”أشكرُ الله أنني لم أتعرّض لمثل ما تعرض له فلان“ قبل التعاطف معه، خذ مثلاً أن الخبر الذي يتحدث عن مقتل مجموعة من الأشخاص دهساً في منطقة ما، يُفهم في سياق مشابه لـ: حدثَ وأن بقينا وإياكم على قيد الحياة يوم الاثنين إثر قيام أحدهم بعملية دهس في شارع كذا بالمنطقة الفلانية، وعليه ثمةَ متسعٌ كافٍ للحلم بما هو مُبهم وأفَضل بطبيعة الحال، انتهى. من ناحيتي، أجد أنه من الضرورة بمكان أن أستغلّ السبب الثاني على الرغم من عدم براعتي في ذلك.
لدى دخولك تركيا براً محروماً من وثيقة جواز السفر لأسباب شتى على الأرجح أمنية يقال إنك محمي مؤقتاً، ويعني هذا أنك ستعود ريثما يصفّي الأقوياء حساباتهم داخل أرض بلادك، وعليهِ تُمنح وثيقةً مضافةً إلى مجموع كومة الأوراق التي تَحملها معك كـ شاهدة على أنك موجود على الكرة الأرضية تدعى «كملك»؛ هذه البطاقة تتيح لك التواجد ضمن منطقة جغرافية معينة في تركيا يحرم عليك تخطّيها دون إذن.
إذن الانتقال إلى منطقة أخرى في تركيا يتطلب كحدٍ أدنى أن تكون مسجلاً ضمن قائمة المخلوقات البشرية المتواجدة في المدينة المُراد السفر منها إلى مكان آخر، أي أن تمتلك «كملكاً» (أحبّذ أن أتجاوز قاعدة الممنوع من الصرف هنا).. وهكذا أنت الآن على دراية شبه تامة بطبيعة سير الأمور. لكن تعالَ نقلب الطاولة.. لديك بطاقة شخصية سوريّة، ودفتر خدمة إلزامية كُتب عليه آنذاك: مؤجَّل بدافع (الأرجَح أن يُقال بمبرِّر) الدراسة في جامعة البعث، كلية الآداب، قسم الترجمة الإنكليزية؛ لا جواز سفر، ولا دفتر عائلة، ولا حتى صور شخصية مطبوعة، وهي غير مجدية بطبيعة الحال إن وُجدت، ككل الأشياء في هذا العالم.
الـ«كملك» اللعين هذا يكلّفك التواصل مع السماسرة، أي أنه بمعنى أو بآخَر يكلّفك مهارات التواصل بحد ذاتها ناهيك عن السماسرة أنفسهم، ومكالمات الهاتف (هذه أيضاً بحاجة للكملك) إضافة إلى ٤٠٠ دولار أمريكي (العمل بحاجة لكملك)، بالسعر ذاته الذي تفرضه قنصلية بلادك في إسطنبول على منحك جواز السفر بعد التأكد من استحقاقك إياه.. أحقّيّتك بأي شيء في العالم مرهونة بأحقّيتك إياه أيضاً.. يا للسخف، حتى الحياة دون أوراق.. أشيد بتسمية هذه الجريدة بـ أبواب، عوضاً عن أوراق.
حسناً .. أعتقد أنني قد أغرقت شهادتي بأشياء غير مهمة، عزائي في ذلك هو أن ميرسو في «الغريب» اعترفَ بكونه لم يتواجد حال دفن والدته، في حين يطالبه القاضي بالحديث عن قتله للشاب العربي إثر تعرضه لضربة شمس أغاظت مزاجه، لتتحول المحاكمة بعد ذلك إلى استجواب حول الأسباب التي حالت دون تواجده أثناء الدفن لا عن جريمة القتل.. إنها الشمس على أية حال، بغيضة ومثيرة للشفقة ههههه، أتَرى كم هي تأخذنا على المحمل الجد؟.
تقول أمي (ثمة كاتب قبيح قد بدأ كل كتاباته بهذه الجملة حتى بتّ أحسّ والدته في مكانة بين دوستويفسكي وكانط)، حسناً.. تقول أمي (ثمة كاتب قبيح …) إن بطاقة الـ “كملك” في المدينة التي تسكنها مجانيّة، وإنها مليئة بأنصار رجب طيب أردوغان؛ واو.. حسناً أمي، أحبّك، أنا قادم، وسأحاول ألا أنال من مكانة الرجل في أدمغتكم خلال هذه الحقبة، سنتحدث عنه في وقت لاحق، بمجرّد عبورنا للحدود بعد إقرارهم لنا بحق العودة. (أحقّيّتك بأي شيء في العالم مرهونة بأحقّيتك إياه أيضاً.. يا للسخف) مجدداً.
الوصول بي إلى هناك للحصول على البطاقة اللعينة يتطلب حصولي على البطاقة اللعينة نفسها، معادَلة بمجهولين وحقيقة واحدة تقول: عليك أن تحصل على البطاقة اللعينة..
أحد الأشخاص يقول إن حلاً مجرّباً يقضي أنه من الواجب عليّ دخول المستشفى بدافع الإسعاف، وأن القائمين على هذا الأخير من طاقم المشفى مُطالبون بمنحي بطاقة الحماية (المؤقتة) .. أعتقد أنني بحاجة ماسة إلى أن أصاب بأذى.. التهاب الزائدة، أو أمراض متعلقة بسوء التغذية، أو ضربة شمس؛ لك أن تتخيل كيف ألقيَ بك إلى هذا العالم مصادفة، باسمٍ يقاسمك إياه الملايين حوله، وبملامح قيل إنها تشابه حتى أربعين فرداً آخرين غيرك.. يا للهول!، ولأمك نهدان غضّان طريّان، أسقَينكَ في البدء تمهيداً لرحلتك الأرضية؛ … وها أنت ذا، على طول المسافة، وفي كل يوم، محاطاً بأشياء تتأكدُ تدريجياً غُربتُها عنك، وجهلُها بك، وإنكارها لوجودك، ولا مبالاتها الجذرية بمصيرك واختياراتك.
على الأرجح، أو بالتأكيد، أنا المُلام في كل ما يجري، مُلام في اللحظة التي عبرت فيها السماء الأولى قادماً إليكم من فرج والدتي، لكنني سأفعل ما يفعله الآخرون، يلعنون القدر والحظ وأشياء أخرى كثيرة ليس لها أي تأثير يذكر على حياتنا.. وسأشجّع كرواتيا وآيسلندا في مباراتيهما المقبلتين ضد تركيا ضمن التصفيات المؤهلة إلى كأس العالم في كرة القدم المزمع انطلاقها “مدري وين”، في الـ كذا مطلع شهر كذا العام القادم.
بدافع الشفقة على مدى جدّيتي في التعاطي مع كل هذا؛ يقول إميل سيوران: إن موسيقى باخ هي الحجة الوحيدة التي تبرهن على أن خلق الكون لا يمكن اعتباره فشلاً تاماً.