محمد زادة. شاعر سوري مقيم في ألمانيا
في طفولتي كنتُ مهووساً بالشاحنات كان أبي يحلم بأن أصير طبيباً مثل عمي الدكتور محمد والذي أحمل اسمه، بينما كنت أحلم بأن أجلس مكان أبي خلف مقود شاحنته الطويلة من ماركة سكانيا. كان أبي يغيب فجأةً لشهور ويعود فجأة، وحين أسأل أمي عنه كانت تقول بأنه سيعود إذا جاءته حمولةٌ عكسية من العراق إلى حلب، كانت وجهة البضائع هي التي تحدد لقاءاتنا بأبي.
مرتين سافرت مع أبي على متن الشاحنة “سكانيا”، مرةً من حلب إلى عفرين ومرة من بغداد إلى البصرة، أجلسني يومها في حضنه، أمسكت بالمقود الكبير وشعرت بأنني أقود العالم كله وبأن حلمي تحقق، كنت أشعر بسعادة كبيرة حين كان أبي يقولها في مجالس الأقرباء بأنني استطعت أن أقود عنه الشاحنة من بغداد إلى البصرة، كنت في العاشرة من عمري ولا أحلم بشيءٍ سوى بالشاحنات.
كنا جالسين في بيتنا الذي في البصرة على مقربة من شط العرب، ولم يكن أصغر أخوتي معنا لأنه جاء للدنيا بعد تاريخ هذه الحادثة بعامين، ولم تكن حينها أمي تعرف أي شيءٍ عن أخي هذا الذي سيأتي ويسبب لها حرجاً وسط العائلة لأنه أتى بعد انقطاع أحد عشر عاماً ونيف، أختي التي تكبرني بعام كانت على بعد متر واحد من التلفاز تقلد رقصةً عراقية، وأخي الكبير نائماً على الأريكة، بينما أنا وأخوتي نلعب بقصاصات الورق وكأنها شيكات ونقود نشتري بها العالم كله، وكان أبي يخطط أن يأخذنا في الصباح إلى جزيرة السندباد، لكن التلفاز توقف عن البث وتوقفت أختي عن الرقص واستيقظ أخي الذي كان نائماً، وتوقفنا أنا وأخوتي عن اللعب وشراء العالم، ورفع أبي صوت التلفاز حيث وقف أحد جنرالات الجيش العراقي وأعلن الحرب على إيران.
لم نكن نحن الصغار نعرف شيئاً عن الجنرالات لكن أبي قال عنه بأنه ضابط كبير، هذا الذي أوقف أختي عن الرقص وقرأ علينا بياناً عسكرياً فيه إعلان الحرب. غادرنا العراق وبقي والدي هناك لكي يعود بشاحنته، لكنه عاد بعد شهرين دونها وقال بلغة حزينة أنها صارت في الخدمات العسكرية لنقل العتاد والعسكر، قالها وكأنه فقد كل شئ.
– راحت السكانيا.. (قالت أمي بفرح لأن أغلب مشاكلها في الحياة كانت تتعلق بالسكانيا مثل غياب أبي الطويل في بلاد بعيدة). فردّ أبي.. “ستنتهي الحرب بعد أيام وأسترجع السكانيا”.
لكن الحرب استمرت تسع سنوات وأبي ينتظر.. والعراق يجهز لحرب جديدة وأبي ينتظر.. وقوات التحالف تحرك أساطيلها الثقيلة باتجاه الخليج لضرب العراق وأبي ينتظر. ويقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي، وأبي لم يعد ينتظر.. أبي مات وظلّت ضرّة أمي السكانيا في العراق وصرنا نحن ننتظر عن أبي. فاشتعلت البلاد كلها بربيع الثورات ونحن ننتظر مثل أبي، وتوجه كل زنادقة الأرض إلى هناك واشتعلت حروب وحروب ونحن هربنا وتوزّعنا في بلاد الجوار تاركين أبي في مقبرة العائلة، فقالت أمي بألم وهي تتابع قصف المدن بالبراميل وأسطوانات الغاز “راح بيتنا”.
رد عليها أخي.. “ستنتهي الحرب بعد أيام وسنعود”. ومرت سنين ونحن نتوزّع في قلب البلاد ونتقلّب في المسافات، غادر آخر أخوتي تركيا متجهاً إلى ألمانيا هو ذاته الذي قال /سنعود/، مرت السنون ودخل عامه السادس في ألمانيا وفقد بيته في حلب وما زال ينتظر.
منذ الصغر كنت أحب الشاحنات لكننا حين نكبر نكره الأشياء التي أحببناها في الطفولة لأننا نرى وجهها الآخر، كنت أحبها لأنني كنت أحب السفر والسكانيا والطرقات الصحراوية، لم أكن أعرف حينها أن الشاحنات تصلح لنقل البشر ثم سمعنا أن الجيش العراقي أثناء تنفيذ حملات الأنفال قام بنقل العائلات الكردية على متن الشاحنات باتجاه المقابر الجماعية، ثم استخدمها الجيش السوري لنقل المعتقلين إلى حتفهم.
أخبرتنا أمي إن شاحنةً كبيرة زيتية اللون كانت تأتي في الليل وترمي الجثث في حفرة عميقة قرب بيتنا في حلب منطقة بني زيد وكان يتم حرق الجثث بداخلها.
في الشريط الأخباري قرأت أن اللصوص استخدموا عشرات الشاحنات لنقل معامل حلب إلى تركيا، والبعض الآخر استخدموها في حملات التعفيش، ثم ركنها تجار البشر على الطرقات بحمولةٍ من الجثث التي ماتت اختناقاً في قلب أوروبا، ثم استخدمتها منظمات الإغاثة لإيصال الثياب المستعملة والأدوية إلى مناطق النظام المنكوبة، واستخدمها الجيش التركي في ترحيل الشباب السوري إلى سوريا.
قبل مدة كنت في زيارةٍ لأمي وسألتها عن السكانيا، أمي تتذكر الأشياء البعيدة فقط أما الذاكرة اللحظية فقد توقفت تماماً منذ أعوام، “هل تذكرين السكانيا يا أمي؟”
هزت برأسها قائلةً لم أحبها يوماً.. والدك تركني في شبابي وسافر معها عبر البلاد،كان يعود بعد أشهر من الغياب ثم فجأة يغيب وأنتظر، كان سفره المفاجئ يشبه ذلك الضابط الذي ظهر بشكل مفاجئ ليعلن الحرب وقال عنه والدك بأنه ضابط كبير، ذلك الضابط الذي أوقف أختي عن الرقص وخرَب رحلتنا الجميلة معي أبي إلى جزيرة السندباد.
اقرأ/ي أيضاً: