د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
بعد أن اجتازت صديقتي مرحلة كونها مجرد رقم، وعادت من جديد إلى حياةٍ شبه طبيعية. أي بعد سنوات بدون أوراق ثبوتية، أمضتها في زيارات طويلة للدوائر الرسمية الفرنسية، حيث يكون اللاجئ عادة زائراً غير مرحب به إطلاقاً. قررت متابعة نضالها لتضع قدميها فعلاً على الأرض، ولتثبت لنفسها أولاً وللأيام تالياً أنها مازالت على قيد الحياة.
عندما تتكلم عن اللاجئ، لا تحدد صديقتي الصفة الجندرية (لاجئ أو لاجئة)، وإن كانت في قرارة نفسها متأكدة وبدون أي تحيز أن اللاجئ بجنسه المذكر أوفر حظاً من اللاجئة الأنثى، ويعامل بلطف أوضح وكأنه البطل المغوار، بينما تُعامَلُ اللاجئة وكأنها المندسة أو الممثلة الجشعة، المشاركة في كل المؤامرات الكونية.
أقول أنه بعد سنوات من السجن الذهبي (وهنا تشكر ربها أنه سجن ذهبي وليس معتقلاً) استطاعت أن تحصل على أوراقها الرسمية في بلاد المهجر. تضحك في سرها لحصولها على أول جواز سفر أحمر، رغم معرفتها أنه ليس جواز سفر بالمعنى الحقيقي، فهذا يعد ترفاً بالنسبة للاجئ، الذي تكفيه “وثيقة سفر”، واللون الأحمر جائزة ترضية له عن حقوقه وجنسيته المسلوبة.
لن تنسى صديقتي أول رحلة لها حاملة جواز السفر الأحمر السحري هذا. بعد أن أمضت النصف الأول من حياتها مستخدمة جواز سفر كبير كحلي اللون، مكروه في معظم أرجاء المعمورة، وفي حال تم قبوله فإجراءات السفر معه ليست كباقي الإجراءات. حامل جواز السفر الكحلي الكبير عليه أن يتحلى بالصبر والقوة النفسية، بالإضافة للياقة البدنية العالية. لأن عليه أولاً المرور في المطارات من بوابات مختلف، والسير في ممرات طويلة للوصول إلى طابور طويل ينتظر فيه دوره، ناهيك عن الانتظار عند كوة موظف الجمارك، الذي يحتاج لوقت طويل لقراءة الجواز وتفحصه وتحريكه في كل الاتجاهات علّه يجد معلومةً ما مختبئة في ركن من أركانه.
وعليه فإن أول سفرة لصديقتي مع وثيقة سفرها الحمراء كانت تاريخية بامتياز. هيأت نفسها للانتظار وتحلت بالصبر، وجدت نفسها تذهب بشكل تلقائي نحو البوابات المعقدة المخصصة لأمثالها بحكم العادة. وكم كانت دهشتها كبيرة عندما طلبت منها الموظفة، وبلطف شديد اللهجة لم تكن معتادة عليه الاتجاه نحو البوابات والكوات السحرية، حيث الحياة هناك زهرية اللون (بامبي كما يحلو لها أن تسميها).
إنه ترف ما بعده ترف
تفاجأت بأنها تجتاز الممرات بسرعة، لا عوائق ولا تفتيش، لا حاجة للتوقف ولا دقيقة، فهي بمجرد أن تمد يدها ومعها جواز أحمر اللون، كان الطريق يفسح لها بسهولة بالغة، لم يكن هناك أي داعٍ أو حاجة للتمعن أو حتى لمجرد إلقاء نظرة على وثيقة السفر هذه. لقد خدعهم اللون الأحمر السحري. فتحت صديقتي فمها وعيونها بدهشة واضحة وكادت أن تقول للموظفة: ألا تريدين أن تقرأي؟ أو أن تفتحي هذا الجواز؟
من شدة فرحتها أو دهشتها أو ربما حسرتها على نفسها وعلى أمثالها أصحاب الجوازات الكحلية الكبيرة (وكأنها صفحة دفتر مدرسي)، كانت تتماهى في رفع يدها ليظهر اللون الأحمر عالياً. لدرجة أنها صدقت نفسها وكادت تتعالى على من حولها وتتمنى أن تقول لهم: أنظروا أنا مواطنة ومسافرة محترمة، أنا حقاً إنسانة. يا لهذا الجواز الأحمر الذي يفتح لحامله أبواب الحياة الذهبية على مصراعيها.. إنه ترف ما بعده ترف.
سرحت صديقتي بنظرها بعيداً، لتعود سنوات طويلة إلى الوراء، وتذكرت “أناها” القديمة في حياة سابقة، عندما كانت تسافر خارج الوطن بدواعي العمل أو حتى السياحة، ويحين موعد العودة، وكم كانت تشعر بالمرارة لهذا الرجوع الإجباري لبلدها، كانت تجد نفسها غير متلهفة لرؤية وجوه عربية أو لسماع لغتها الأم في المطارات، لأن كل هذه الأمور كانت من البديهيات ومن الواقع المعاش يومياً. كانت تعرف أن مصيرها وحياتها سيكونان أولاً وأخيراً في بلدها مع أهلها وأصحابها وأقرانها، كانت متأكدة أنها مهما سافرت وغادرت فإن العودة قدرها المحتوم، ولذلك كانت لا تستعجلها. لم تكن تدري أنها يوماً ما ستغادر وطنها لتتمنى العودة وتحلم بها دون أن تنالها.
الآن تجد نفسها تحدق في الوجوه، علها تجد أحداً من مواطنيها ذوي الملامح الأصلية (كما قالت لنفسها)، تتنصت على أحاديثهم علها تسمع لغتها، لا بل كانت تتوجه إليهم بالكلام لتشاركهم هذه الأحاديث وكأنها تعرفهم منذ زمن بعيد. كما تتمنى أن تقبلهم وتسمع قصصهم وتخبرهم بقصة حياتها كاملة.
لقد تغير مصيرها وتغير قدرها وتغيرت حياتها بتغير لون جواز سفرها.
اقرأ/ي أيضاً:
زاوية يوميات مهاجرة 17: في باريس التي لم تعد باريس.. هكذا تسلل الحب
زاوية يوميات مهاجرة 16. لعنة أم نعمة؟
زاوية يوميات مهاجرة 15: شجرة أمام نافذتي