د. نعمت الأتاسي*
لصديقتي السورية بورجوازية الأصل حكاية أخرى مع المنفى لا تشبه بقية الحكايات. فبعد عدة أشهر من الهجرة المرًفهة مادياً وفكرياً قضتها في باريس، بدأت تسمح لنفسها أخيراَ بالتفكير بطريقة واقعية.
مرحلة الانتظار لشيء ما كانت تجهله قد مضت، أمورها المادية أخذت تتصاعب، لا وجود رسمي لها، وهي ما تزال تصُر على لعب دور السائحة المثقفة في عالم لا يعترف بالسياح الأجانب إلا كمحفظة نقود. مع مرور فترة من الزمن اضطرت صديقتنا أن تدخل حيُز الفراغ الرمادي، وذلك بانتهاء صلاحية أوراقها الثبوتية. وعليها اتخاذ أصعب قرار للدخول إلى ما أسمته: قفص اللجوء الذهبي.
استيقظت صديقتي باكراً لتذهب إلى المكان الذي سيسمح لها أن تبدأ المرحلة الأولى، لتصبح رقماً بين بقية الأرقام. تسلّحت ضد البرد بشالها الصوفي ذي الماركة العالمية وهي تقول في نفسها كنوع من أنواع العزاء الذاتي: “لا يهم هذا التناقض، فأنا بكل الأحوال لم أشتر هذا الشال وإنما كان هدية من شخص ما في حياتي السابقة”.
تحسباَ للانتظار الطويل أخذت معها بعض (الكرواسان) وملأت الترمس الذي كانت قد ابتاعته من (ستارباكس) بالقهوة الساخنة. وأخيراَ وبما أنها تعتبر نفسها من الجالية المثقفة، فلم تنس كتابها الذي كانت تقرأه بتمعن (البحث عن السعادة)!
في تمام الساعة السادسة صباحاً وصلت صديقتنا مقر المؤسسة لطلب اللجوء، معتقدة بأنها ستكون من أوائل الموجودين، لتجد أمامها المئات من الشباب والنساء من كل الجنسيات. تملكت الحيرة نفسها وبدأ الخوف ينهش قلبها، خصوصاَ عندما بدأ بعض الشباب بالتصفير– وإن كانت قد استبعدت تماماً فكرة الإعجاب بها وذلك لتقدم عمرها- وهنا لم تمنع نفسها من الابتسام والتكلم مع نفسها: “قد يكون هذا بسبب الشال”.
بعد فترة من الحيرة أخذت دورها بين مجموعة الشباب وبدأت تتبادل معهم بعض الكلمات، وبلغة هي مزيج من العربية والانكليزية والفرنسية استطاعت التواصل معهم.
تقول صديقتي: تأخذ المناقشة طابعاً طريفاً، فلا حاجة لقواعد اللغة للتواصل، نحن بحاجة فقط لمهارات يدوية في الإشارات.
= أنت من وين؟ سودان؟
– أنا سوريا..
– أنت في بيت؟
تهزّ صديقتي برأسها إيجاباً ولكن مع بعض الخجل لوجود بيت يأويها.
– فاميلي؟
تقول صديقتي: نو…
هنا لحظات من التعاطف طغت على لحظات الغيظ من تواجد البيت.
– أنتي في أكل؟
وهنا تذكرت صديقتي الكرواسان وترمس القهوة في حقيبتها، ولكنها خجلت من نفسها ولم تستطع إخراجهم، حتى ولو راودتها فكرة تقاسمهم مع أصدقائها الجدد.
تتابع: ” كان البرد قارصاً وكنا نرتجف كأننا نرقص كلنا على لحن واحد”.
تسأل صديقتنا جارها السوداني الذي يرتدي كنزة رقيقة، فالسترة المشُمع كان يستعملها كغطاء للرأس لأنها كانت تمطر بغزارة: “بردان؟”.
يضحك كأنه سمع لتًوه نكتة طريفة ويقول: “نووووو”، ولكنه يستدرك بعد ذلك ليقول وهو يرتجف برداً: “شوية”.
طبعاً لا مجال لصديقتنا تحت المطر أن تخرج كتابها لتقرأ به كيفية البحث عن السعادة، والذي يصًر مؤلفه على أن السعادة تأتي حصراً من داخلنا (لا أدري إن كان سيحافظ على رأيه في حال تواجده معنا في هذا الطابور). وهنا سألت جارها الأفغاني: يو… أنت… مبسوط؟ هابي؟
يقول: “أنا في تيكيت… أنا هابي”.
يجدر التنويه هنا أن التيكيت هي فقط لإعطائهم الدور للدخول إلى مبنى المؤسسة، وطلب تحديد موعد لتسجيل طلب اللجوء. هي المرحلة صفر في هذا الطريق السوريالي الطويل.
كان الشرطي الفرنسي يصرخ بين فترة وأخرى: Heyyyy, one by one ويدفعهم ليشرح لهم عملياً بأن التدافع ممنوع، وأنهم يجب أن يقفوا في الطابور بانتظام. عبثاً حاولت صديقتي أن تشرح للشرطي بلطف أنهم يقفون تحت مزراب الماء الذي يدلف فوقهم بغزارة، وأنهم يحاولون تفاديه، لكنه كان يصرخ وكأنه على خصام مع زوجته ويحاول أن يخرج ما بجعبته من غضب قبل الرجوع إلى منزله!
بعد ست ساعات من الانتظار تحت المطر والبرد كانت الساعة قد أصبحت الثانية عشرة ظهراً، وقد حان وقت غذاء الموظفين. فأغلقوا الأبواب وتأجل كل شيء لليوم الثاني. أما أفراد الشرطة فقد هاجوا وماجوا وبدأوا يدفعون الواقفين صارخين: go… Tomorrow.
تقول صديقتي بأنها ستذهب غداً مرة ثانية لتأخذ دورها، وستكون أكثر نشاطاً لتصل هناك الساعة الخامسة فجراً، وأضافت: “لن آخذ معي ترمس القهوة ولا الكرواسان، وقطعاً لن آخذ كتابي الذي يتكلم عن السعادة”.
*كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: