حنان جاد*
أخيراً أعلمتني مدرسة ابني رسمياً بعطلة يوم كريستوفر كولومبوس، الإثنين الثاني من شهر أكتوبر. هذه العطلة التي أقرت فيدرالياً قبل نحو ثمانين عاماً تحولت اليوم إلى ما يشبه هلال رمضان، تسبقها الاستطلاعات ثم الفتوى الرسمية. الفرق أن هلال رمضان يأتي مبكراً أو متأخراً، بينما هلال كولومبوس يختفي كل عام من سماء إحدى الولايات وربما لا يعود للظهور مجدداً في عموم أمريكا.
يواجه يوم كولومبوس منذ عدة سنوات تحدٍ أخلاقي، فبعض حركات المجتمع المدني تطلب رأس الرجل المتوفى قبل ما يقرب من ستة قرون باعتباره مجرم حرب.
دراسة صادرة عن جامعة كاليفورنيا وصفت كولومبوس بأنه متسلق لم يوفر سبيلاً من السبل الدنيئة، من الاستغلال إلى الاستعباد إلى التلاعب بالإنجيل وارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. لم يوقفه شيء أو يردعه رادع عن تحقيق طموحاته الشخصية وجمع المال. هذه الدراسة صدرت عام 2004، لكنها وما تحتويه من معلومات أصبحت رائجةً جداً منذ العام 2013، وفي العام 2014 بدأت بعض المدن الأمريكية تعلن انسحابها من الاحتفال السنوي بـ “كولومبوس” مبررةً موقفها بالحقائق التي أصبحت معروفة عن ممارسات الرجل وجرائمه.
ومنذ ذلك التاريخ، والمجالس المحلية للولايات تجتمع في كل عام تصوت لتقرر موقفها من يوم كولومبوس، وكل سنة تجد أمريكا نفسها أمام نسخة جديدة من هذا الاحتفال. هذا العام اتخذت عدة ولايات قراراً بإجماع أعضاء مجالسها المحلية بإلغاء العطلة وكل أشكال الاحتفال بالرجل الذي أسمته: سفاح ومغتصب. ولاياتٌ أخرى أبقت على العطلة المدفوعة وغيرت اسم اليوم من كولومبوس إلى أسماء القبائل الأمريكية الأصلية التي هي عملياً من اكتشف أمريكا وعاش فيها آلاف السنين قبل أن يأتي كولومبوس. بعض الولايات اختارت أن تجمع بدلاً من أن تفرق، وأن تبارك في هذا اليوم أمريكا، أمة المهاجرين، بدلاً من أن تلعن المستكشف العنصري.
تحتفل الولايات المتحدة فيدرالياً بعشرة أيام، تغلق فيها كل المصالح الفيدرالية ما عدا شديدة الحساسية منها كالشرطة والمطافئ والإسعاف، ورغم أنها عطلة رسمية مدفوعة من قبل الحكومة الفيدرالية لموظفيها وليست ملزمة لغيرهم إلا أن أجواء الاحتفال تعم البلاد وتصل إلى داخل البيوت التي تعلق الزينات وترفع الأعلام وتقيم المآدب وتقدم الهدايا في يوم الاستقلال والكريسماس، في عيد العمال وعيد الشكر. ومن ضمن الاحتفالات الفدرالية العشرة هناك ثلاثة أيام تحمل أسماء ثلاثة رجال: مارتن لوثر كينج، جورج واشنطن وكريستوفر كولومبوس.
الجالية الأمريكية ذات الأصول الإيطالية هي التي ضغطت بقوة يوماً ما لجعل ذكرى كولومبوس احتفالاً فيدرالياً، اعتداداً بأصول الرجل الإيطالي الذي يعزز وجودها في الأرض الجديدة. وقد عبرت عن خيبة أمل كبيرة عندما أعلنت ولاية سان فرانسيسكو إلغاء عطلة كولومبوس، وهي الولاية التي انطلق منها هذا الاحتفال قبل أكثر من مئة سنة، أي قبل حتى أن تعلنه الحكومة الفيدرالية يوم عطلة رسمي. المسألة لم تقف عند هذا الحد فعمدة نيويورك أعلن عن تفكيره في إزالة تمثال كولومبوس.
وكان تمثالٌ آخر قد سقط في منتصف العام في مشهدٍ احتفالي، بعد مظاهرات فرجينيا التي انتهت بمقتل متظاهرة ديمقراطية على يد متظاهر عنصري. التمثال كان يخلد جندي الكونفدرالية. مؤيدو الكونفدرالية الحاليون في أمريكا، تسميهم الأوساط الديمقراطية (الزبالة البيضاء) يعبرون عن قيم التفوق العرقي، بل ويعبر بعضهم عن رغبته في استرجاع الاستعباد. بعد هذه الحادثة اتجهت أنظار الصحافة للتماثيل الموجودة في واشنطن العاصمة وبدأت تعد قراءات رقمية وإحصائية لها، لتكشف لأول مرة عن انحيازها عددياً ضد السود وتجاهلها الكامل لدور المرأة في بناء أمريكا. عمدة كولومبيا الديموقراطي ذهب أبعد، فطالب بإزالة تمثالٍ لأحد رواد علم الجراحة النسائية ومؤسس أول مستشفى نسائي في أمريكا، والسبب أن هذا الطبيب الذي استطاع أن يصل إلى علاجات نسائية ناجعة، حقق إنجازه العلمي ذاك عبر تجارب أجريت على نساء سود مستعبدات ومن دون تخدير.
وصلتُ إلى أمريكا في فبراير الماضي، ومنذ وصلت وحتى اليوم لم تهدأ هذه البلاد، ولم تتوقف عن مراجعة ماضيها وحاضرها، ولم يتوقف سقوط الضحايا، الغليان متواصل في أمريكا كما في كل مكان لكن القِدر مفتوح، والبخار يتصاعد منه من دون أن ينفجر، بيوتها خشب وتاريخها حافل بالحرائق والأحقاد، لكنها تحرز تقدماً كل يوم على طريق علاج أمراضٍ، القليل منها كان كافياً للفتك بمجتمعات أخرى لم تجد تفسيراً لانهيارها إلا الكلام عن المؤامرة.
حنان جاد. كاتبة من مصر
مواضيع ذات صلة: