الكاتبة و الفنانة السورية رنا كلش
(1)
عندما أتذكر تلك اللحظة التي قذفت بها إلى قارب الهواء بيد ترفع واخرى تلتقط ابتسم، أدهش لتلك الليلة التي تحول فيها الجميع لجنس واحد. لم يعد هنالك امرأة ورجل وطفل.. كنا جنسا مختلفا تماما، تحول جميع الركاب الى فطرتهم وبات القرآن يتلى من أفواه كانت لتبدو لنا على البر أبعد ما تكون عن التقوى.
بحر أسود…. سماء سوداء.. وقمر يرقب ضجيج المحرك وأصوات الاستغاثة، هل تدركون معنى أن تصبح لله أقرب؟… لطالما كان الانسان يهرع الى ربه عند الشدائد… عند الخوف الأكبر، وكنا لحظتها على خانة الخوف الأكبر.
بعدما قذفت إلى البلم وكببت على وجهي قفز الناس عشوائياً إلى البلم، بعضهم جلس على يدي الاولى… واخرون على قدمي واستندت احداهن على ظهري، لم يكن حينها ليسمع احدهم صوت تذمري….وبات الماء يتوافد إلى البلم… وأنا مثبتة كليا من جميع الجهات، فجأة تلقيت صفعة من يد مجهولة….، التفت لأرى خصمي وجدته عجوزا مشلولا.. يده وحدها من تتكلم عنه، ذهب عني الغضب وسألته: لم ياعم؟.، صاح :قدمييييي.
كان يظن بأنني منبطحة على قدمه التي بها طرف احساس، قلت له بلطف: ياعمي لست أنا، وكانت الصفعة الثانية.
سأضحك الآن… ولكنني حينها بكيت، ليس لي لسان أطلقه على العجوز المشلول وليس لي يد ولا قدم أبتعد بها عنه، بكيت وتقبلت الصفعات برحابة قهر.
اقرأ/ي أيضاً للكاتبة: قلوبنا على طاولة بين جيلين… المهاجرون في ألمانيا بين قديم وجديد
(2)
كانت المياه تتدفق للبلم بقوة رهيبة، خافت النسوة والأطفال واستشعرت الرعب في أعين الرجال، لا أعرف وقتها كيف تحجرت مشاعري… بات تنفسي بطيئا، ولم أكن أنتمي لنفسي حينها، كنت في المرحلة التي تسبق الانهيار.
أستند رجل على قدم أحدهم وبدأ يجهش بالبكاء، كان يتلوى من الخوف والرعب، بات الجمهور الخائف يطالبه بالصمت بقسوة، حزنت عليه وغضبت في نفس الوقت، لانه من البديهي في عقليتي الشرقية أن أتوقع البأس والقوة والرصانة في أي رجل، ولكنه كان أكثر خوفا من النساء أنفسهن.
المياه تتدفق دونما استئذان، ووصلت حدودها لمستويات خطرة، هنا بدأت مرحلة الخطر جديا، لم يكن هنالك شيء يلوح في الأفق إلا الليل الدامس وبعض الأضواء الخافتة من الجزيرة.
انتفض شيء داخلي وقال بحزم: قاومي، لا تموتي هنا، تذكرت صوت المنادي الذي أعلن في المسجد خبر وفاة أحد معارفي غرقا قبل خروجي من سوريا… تذكرت صوت اختناق روحي عندما سمعت اسمها، كانت مقاربة لسني تلك المسكينة، غرقت أمام زوجها وطفليها…. هي ماتت وهم وصلوا، تخيلت ان عائلتي وأحبائي سيسمعون تردد أحرف اسمي على المنابر، أن تصمت الحناجر للحظات كي تعرف اسم الوفاة القادمة، ويترحمون للحظة ثم يعاود كل منهم عمله وصب صحن الطعام على المائدة، هنا باتت شتائم الكون تكال علي، هل أنا غبية و ساذجة لهذه الدرجة، لم أنا هنا، لم جميع خلق الله نيام في أسرتهم ينعمون بالدفء وأنا مبتلة حد القرف هنا، كنت قطة يملؤها الماء…وكنت أرتجف حد الحزن.
صرخ أحدهم :فلتخرجوا المياه من البلم أيها الحيوانات، وسمع الحيوان في آدميتي أمره وانصعت للأمر، أخرجت إحداهن كأسا وناولتني إياه وبدأت بالانخفاض والارتفاع ورمي المياه بمقدار الكأس لخارج البلم هههههههه، يارب الكون كم كنا عديمي حيلة وقتها، لم يكن معنا إلا ذلك الكأس التافه ندفع به موتنا القادم.
هنا كنا قد قطعنا منتصف المسافة ودخلنا المياه الاقليمية اليونانية، لاح من البعيد ضوء…..صرخ أحدهم إنه الخفر اليوناني…..فلتسرع أيها السائق، وبات المحرك يعمل في أقصى درجاته، الضوء يقترب ونحن نقترب، ثم لاح الضوء قويا أكثر وأكثر…..ثم رأينا السفينة السياحية بعلوها الشاهق تمخر عباب الماء بصرامة، حدثت نفسي: هل سينقذوننا؟.
أصبحت على امتداد قريب منا، حتى أنني بت أتبين ملامح البشر فيها، كنا نلوح بأيدينا ونطلب العون….ولكنهم كانوا أبعد الناس عن نجدة حثالة الأرض، نعم كنا عبيدا وكانوا السادة ، كؤوس النبيذ في أيديهم تساوي أرواحنا جميعا، بعث لنا أحد راكبي تلك الباخرة قبلة بيده……كانت على ماأظن القبلة الوداعية على جبين الإنسانية القذر..
بدأ بعض ركاب البلم بالتقيؤ من جراء دوار البحر الذي باغتهم، و شعرت ببعض الدفء يسري على ساقي ….سررت بتلك الحرارة الطارئة على بردي ، كان أحدهم يتقيأ علي ويسبغ على جسدي ما حوت معدته، لم أنزعج حقيقة بل ضحكت. …ضحكت بدمع حرق ملح وجهي، هل جربتم يوما الضحك من فرط الحزن والخوف معا؟…أنا جربته..واستمتعت بذلك….كنت مختلة.
لم يكن نصب عيني إلا تلك التي تلوح معربدة أمامي بأضوائها ومظاهر الحياة عليها، كنا على الجانب الآخر من الحضارة. ..كنا قراصنة العصور الوسطى في مركبهم المهترئ….المركب الذي يعج بالقيأ والدمع والأطفال. ….، كانت اليونان أجمل وأقذر المدن في واقعي…وتذكرت كم مات في سبيل الوصول إليها أناس ابتلعت صرخاتهم أعماق البحر.
كنا نقترب. ..ونقترب وكلما اقتربنا بدت أبعد، لطالما سمعت من الناس جملة (البحر غدار)…..ليتهم أضافوا وصفا آخر:البحر يحب الصغار….، كنا صغارا رغم كهولتنا التي عشناها في صبا، كبرنا في بلادنا آلاف السنين…..وصغرنا في أعين الدنيا كأن لم نكن، ماالفرق الذي سيحدثه غرقنا في القضية؟…لاشيء، كنا على أقل تقدير سنكون مجرد حدث…ليته عاجل، لأننا أقل شأنا من أن تولينا محطات الأخبار عنواينها العاجلة….فنحن على الهامش، منذ استباح أعداء الحب دمنا ولم يحرك العالم ساكنا صرنا بلا وجود وبلا قيمة.
صاح رجل من آخر المركب :سنصل…سنصل، هنا بدأت موسيقا المسلسل الكرتوني الذي أحياه بالتسلل الى سمعي…فقد كانت جزيرة كنزي أمامي، فلأقل جزيرة مخاضي الأول وحزني الأخير، ها نحن ذا على دروب كنزنا. …رحت أدندن الأغنية وحدي ثم شاركني بها أخي…لطالما شاركني طفولتي وسيشاركني رحلة الغربة الآن…قدرا.
لم تعد الجزيرة أبعد المدن ولا أكثرها استحالة، ستصبح في متناول أقدامنا بعد قليل، سنمشي على أرضها نحن زوار آخر الليل….آخر لحظات الليل….وحط القارب على الأرض.
كنت طفلة حينها أعترف، قفزت الى المياه الضحلة….وركضت الى الأرض…..وددت لو أقبلها. .أحضنها…أرتمي عليها بكليتي وأحاول دمجها في أضلعي..، هرعت اليها رغبة وكرها….رغبة بالحياة…وكرها بالبحر جارها، ابتعدت عنه…وقفزت من الفرح مرات ومرات، وودت أن أضم الجميع وأن أبكي مع الجميع، إجتاحتني رغبة في إيقاف كل السيارات وإخراج راكبيها والصراخ فيهم :أنا حية….أنا كنت هناك …في البحر….أنا أشم الهواء ….أنا معكم ..بينكم ، كنت طفلة للحد الذي يجعلني أتقبل أن يصفعني أي أحد وأشكره لذلك.
ضمني أخي وبارك لي حياتي التي لم تنتهي عند تلك المياه….عند ذلك الليل….وبزغ أول شعاع للشمس، هل أتيت ياصاحبة ظلي الطويل.؟… افتقدتك جدا… جدا.
نظرت للبحر آخر النظرات وخلعت سترتي وأمسكت بأحد الدواليب الملقاة على الأرض ورميته بأقصى ما امتلكته من قوة… ورايت الموج يأخده للبعيد….. للبعيد.
تنشر جريدة أبواب قصة حلم من مطاط بأجزائها الثلاثة للكاتبة رنا كلش
تقرأون الجزء الثاني والثالث في الأعداد القادمة من جريدة أبواب
رنا كلش من مواليد 1985، تخرجت من جامعة دمشق قسم الأدب العربي، ثم درست الفنون الجميلة في معهد أدهم اسماعيل في دمشق. وصلت رنا إلى ألمانيا عام 2015، وتعيش اليوم في برلين. تشرف اليوم رنا على ورشات فنية خاصة بتدريب النساء للرسم، وتتميز رنا حسب قولها باستخدام بقايا القهوة في الرسم.