ديار حاجي. لايزال مشهد حافلة مؤسسة الإسكان العسكري ذات اللون الأحمر ماثلاً أمام ناظري، كانت تقل عمالها وموظفيها من مدينة الحسكة إلى بلدة الشدادي الغنية بحقول النفط والغاز في الريف الجنوبي، حيث كانت المؤسسة تنفذ في تلك البلدة مشروع إنشاء مشفى منذ سنين.
كنت أعمل في إحدى ورشات المشروع لصالح متعهد من خارج المؤسسة وكنت أستخدم ذلك الباص في الذهاب إلى العمل، فتحولت إلى شاهدٍ على قصص الباص الممتلئ بتفاصيل تخص المؤسسة والواقع الإداري والأمني والحياتي في الحسكة، والتحولات والتغييرات القادمة في تلك الفترة، حيث كانت قد مضت في ذلك الوقت خمسة شهور على بدء الثورة في سوريا، وكنت أتابع ردة الفعل المباشرة للأحداث التي تحصل في عموم المناطق السورية في ذلك الباص.
مهمتها .. بناء سوريا الأسد
دفعني الفضول إلى الغوص في تفاصيل هذه المؤسسة التي أنشئت عام 1975 بمرسوم تشريعي حيث كانت الإصدار الجديد عن المؤسسة العامة للإسكان ذات الطابع المدني والتي أنشئت قبل تولي البعث زمام الحكم بسنوات، وأوكلت لها في البداية مهمة إنشاء مباني سكنية للعسكريين في الجيش السوري، إلا أنه كان من الواضح أن من خطط لإستحداث هذه المؤسسة العمرانية العسكرية والتي ستوكل إليها مهمة بناء “سوريا الأسد”، أراد أن يكون عملها واسع النطاق، فامتدت أذرعها إلى كافة المشاريع الحيوية والإستراتيجية والتنموية في البلاد، مضيفةً إليها طابع التخطيط العسكري الخاضع لشروط ومعايير أمنية واعتبارات خاصة بالسلطة الحاكمة وحدها.
وسرعان ما أصبحت المؤسسة الراعي الأول والحصري للإعمار والبناء، راسمةً المعالم والتفاصيل والملامح الأساسية في سوريا لعشرات السنين بدءاً بالطرق والجسور وانتهاءً بالمراكز الثقافية والجامعات والمسارح والمجمعات الرياضية في كافة المحافظات السرية في مشهد جدلي بين العسكرة والعمران ممزوجاً برغبات السلطة الحاكمة ومخططاتها الأمنية. بدت هذه الأشياء كلها واضحة أمامي مع ترنح ذلك الباص القديم المنهك وكأنه كان يرمز إلى أشياء أكبر منه ومن أحاديث أولئك الموظفين الحزبيين.
هنا … داعش
لم يكن يخطر ببالي على الإطلاق في ذك الوقت أن ذلك المبنى الكبير الذي أعمل فيه سيصبح بعد عدة سنوات أكبر مقرات القيادة لتنظيم داعش في المنطقة، كان بركان من التغييرات يتهيأ ليجتاح الحسكة وسوريا كلها، مع الاستغراب من السياسة الهادئة التي يتبعها النظام السوري في الحسكة، رغم استخدامه العنف المفرط في المناطق الأخرى، ربما كنا نحتاج لسنوات لنعلم أن تلك السيادسة الهادئة كانت تندرج تحت مسمى سياسة المناطق الهادئة.
استمرت الأحداث في سوريا بالتطور التدريجي، ولاحظت مع الأيام انتشار السرقات في المشروع وإهمال الموظفين للعمل، وسيطرة الفوضى على كل شيء، وفي أحد الأيام سمعت أحد المشرفين على العمال يقول لهم بأن عليهم أن يتجمعوا مساءً في مقر حزب البعث في البلدة حتى يتم توزيع السلاح على كافة الأعضاء. أشد ما كنت أخشاه حين سمعت ذلك الكلام الرهيب أن هذا الأمر ربما يتكرر في كل مناطق سوريا، وفي كل أماكن وجود هذه المؤسسة حينها أدركت الغاية الأكيدة من إنشاء هذه المؤسسة وتوسيع نطاق عملها في إطار أمني حزبي استخباراتي، فها هي اليوم بصدد تحويل الموظفين الحزبيين الذين تنتشر قراهم الجافة الفقيرة من الحسكة إلى الشدادي، إلى جنودٍ مدافعين عن نظام سيحرق كل شيء، بما في ذلك المشفى الذي لن يكتمل بنائه، وسيصبح الشاهد الأبرز والوحيد على التغيرات التي سوف تعصف في مدينة الشدادي التي كان سكانها من أكثر الناس بساطة في العيش وطيبة في القلب والمعشر.
سوريا حافلة حمراء تترنح نحو المجهول
أما الموظفون فكانت نقاشاتهم السياسية محدودة حسب مستوياتهم الفكرية، تمتد طوال الطريق وفي العمل، بعضهم كان مدافعاً شرساً عن النظام وممارساته الأمنية العنفية والبعض استبشر الخير بقرارات الإصلاح المزعومة، والبعض كانوا يخافون قول ما في قلوبهم، يسكتهم الراتب الشهري وهو سبيل الحياة الوحيد في تلك الأرض القاحلة.
كان المشهد يترنح مع الحافلة بين التناقض والمنطق والمجهول، وكإنسان كردي في ذلك المشهد كان دوري يقتصر كرفاقي على الصمت والتعاطف القلبي مع الثورة، أستمع خلسةً طوال الطريق لأغاني سميح شقير والفنان الكوردي “شفان برور” التي أطلقها لنصرة الثورة السورية ملبياً نداء شقير بعد عشرات السنين، كلماته كانت رياحاً تدخل الروح لأول مرة.
تتالت الأيام والأحداث وأتى اليوم الذي انتهى فيه مخزون مؤسسة الإسكان العسكري من المازوت ولم تستطع تأمينها مع تدهور الأوضاع الأمنية بشكل كبير، توقفت الحافلة وتبعثر المشهد كله ليتسع بشكل كبير وتتحول سوريا كلها الى حافلة الحمراء مترنحة ذاهبة نحو المجهول.
مواضيع ذات صلة:
مدنيو دير الزور: الخسارة الكبرى
عشرات المدنيين ضحايا غارات التحالف على مناطق سيطرة داعش