د جاسم المنصور. معالج نفسي سوري مقيم في ألمانيا
لأن ما عشناه أقسى من طاقة الاحتمال.. سلسلة مقالات تتناول الصدمات النفسية بأنواعها وآثارها – الجزء الثاني
ندرك جميعاً مقدار الأزمات التي مرت بها بلادنا العربية وخاصة في السنوات الأخيرة. عدا عن الكوارث الطبيعية كالزلازل وغيرها. كما يتعرض الآلاف يومياً لأزمات وصدمات سواء نتيجة الحوادث أو الحرائق والأمراض الخبيثة والخسائر المادية وفقدان أشخاص مقربين. وبالإضافة إلى الآثار الطبية والجسدية، ينتج عن هذه الكوارث والأزمات آثار نفسية قد تتحول إلى اضطرابات نفسية تحتاج إلى تدخلات علاجية سريعة.
يحدث اضطراب ما بعد الصدمة عادةً عند معايشة حادث واحد أو عدة حوادث تتصف بكونها كارثية أو ذات تهديدات استثنائية، وليس بالضرورة أن يكون التهديد هذا موجهاً للشخص ذاته، بل قد يكون موجهاً إلى أشخاص آخرين (مثلا إذا كان الشخص شاهداً لحادث خطير أو أعمال العنف). وتظهر الأعراض النفسية والجسدية لاضطراب ما بعد الصدمة عادةً في غضون شهر إلى نصف عام بعد الحدث الصادم. يؤدي الحدث إلى اهتزاز فهم الشخص لذاته والعالم من حوله كما يحطّم الإحساس بالأمان. يتعافى معظم من يتعرضون لحادث صادم بعد بضعة أشهر دون الحاجة لمساعدة مهنية. فالعقل كالجسم، يعرف كيف يتعافى من الإصابات وكيف يتغلب عليها.
اقرأ/ي أيضاً: الصدمات النفسية بأنواعها وآثارها (1): لأن ما عشناه أقسى من طاقة الاحتمال..
في اضطراب ما بعد الصدمة النفسية يصاب الشخص في البداية بخوف شديد وعجز ورعب، يطور لاحقاً استجابة للحدث، تتصف باستعادة مستمرة لتجربة الصدمة، مع أعراض فقدان الشعور والتيقظ، وتسبب هذه الأعراض كرب شديد قد يؤدي إلى شل الوظائف، وحين تستمر هذه الأعراض لفترة شهر على الأقل بعد وقوع الصدمة تتحقق المعايير الكاملة لتشخيص اضطراب ما بعد الصدمة. أما الحوادث التي تسبب هذا الاضطراب فتتنوع من الحرب إلى القتل والتعذيب والكوارث الطبيعية والاغتصاب وحوادث السير العنيفة إلى التشخيص بالأمراض المهددة للحياة. وتعتبر التجربة الجنسية غير الملائمة عند الاطفال حادث صادم، حتى لو لم تشمل العنف أو الإيذاء الجسدي.
أشكال اضطراب ما بعد الصدمة
كلما كانت وطأة الحدث أكبر ازداد احتمال الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة وكذلك تؤثر الاستمرارية والتكرار (مثل تكرار الاعتداء الجنسي في داخل العائلة) مقارنةً بحالة حادثة صدمة نفسية لمرة واحدة (مثل حادث سكة حديد).
علاوة على ذلك، فإن حالات الصدمة التي يسببها إنسان (كالاغتصاب والتعذيب) تؤثر بشكل أسوأ من الصدمة الناتجة عن الكوارث الطبيعية أو حوادث السير على سبيل المثال. ولهذا الاضطراب ثلاثة أشكال:
- الشكل الحاد: يبدأ مباشرةً بعد حدوث الصدمة، ويستمر لفترة تصل إلى ستة أشهر، وإمكانيات الشفاء كبيرة.
- الشكل المزمن: وفي هذا النوع تستمر الأعراض لأكثر من ستة أشهر، وتحتاج لفترة أطول من العلاج.
- والشكل المتأخر: لا تظهر الأعراض مباشرةً بعد حدوث الصدمة، بل تمر في فترة كمون قد تمتد لأشهر أو سنوات، ويحتاج لعلاج طويل ومعقد.
يمر المصاب باضطراب ما بعد الصدمة عادةً بستّ مراحل، هي: مرحلة الرفض وتتميز بالانفعال الشديد والصراخ. ثم مرحلة الإنكار وتختلط فيها مشاعر النقمة والخوف. مرحلة التجنب حيث يحاول المصاب الابتعاد عما يذكره بالتفاصيل. ومن ثمّ محاولة الانسحاب والسيطرة على القلق وربما تترافق هذه المرحلة -عند البعض- بتعاطي الكحول أو المخدرات، أو الإفراط بالتدخين وتناول المهدئات. يليها مرحلة التأرجح بين النكران والتبلد. وأخيراً مرحلة التقبل والاحتواء وفيها يحدث التحسن في الاستجابة، مع اضطراب المزاج، وكثيرون يبدون تكيفاً مع الحالة، وتتحسن أحوالهم مع تطور العلاج.
الوقاية من الإصابة في اضطرابات ما بعد الصدمة
تلعب الوقاية من الإصابات النفسية بعد معايشة حدث صادم دوراً كبير في التخفيف من آثار هذه الصدمة والخروج منها بأقل الأضرار على المستوى النفسي، وهناك عدة طرق لتقديم الدعم النفسي للوصول إلى الوقاية أو الحماية من الإصابة بأثار الصدمة النفسية منها: التدخل المبكر والإسعافات النفسية الأولية، التثقيف النفسي، إعادة الثبات والتوازن النفسي، الاحتفاظ بالمهام اليومية ما أمكن.
في البداية وأثناء معايشة الأزمة أو الصدمة النفسية تلعب الإسعافات النفسية الأولية دوراً وقائياً جيد في عدم تطور آثار معايشة الصدمة إلى اضطرابات نفسية، ومن خلال تقديم رعاية أولية للحاجات الأساسية وتقديم دعم نفسي ومعلومات عن الحدث وعن الخدمات النفسية التي يمكن أن يحتاجها الشخص لاحقاً.
يتم التثقيف النفسي الأولي عبر إعطاء الشخص معلومات عما يمكن أن يحدث معه في الساعات أو الأيام القادمة من أعراض وصعوبات، واعتبار ذلك طبيعي لأنه رد فعل طبيعي على حدث غير طبيعي. وقد يحتاج الشخص لاحقاً إلى مراجعة مركز نفسي ليحصل على معلومات أعمق. فيقدم الداعم أو المختص النفسي على سبيل المثال معلومات حول تطور معايشة الحدث الصادم والمراحل التي يمر بها الفرد.
في الأجزاء القادمة سنبحث في أنواع اضطراب ما بعد الصدمة النفسية وطرق العلاج الممكنة