د. مروة مهدي عبيدو*
ماذا لو أمسكنا بالصدف التي أوصلتنا إلى هنا، ورصدنا الخوف الذي لازمنا طوال الرحلة؟ هل ستستقيم المعادلة أم سترتبك الصورة أكثر؟
صدفة دفعتني للكتابة عن أوجاع الغربة، متلازمة مع معاناة دائمة لمواجهة هذا الخوف من فتح جروح حفرت بداخلنا بقوة الأسطورة أو الصدفة، تلك التي تختفي وراء المشاهد والأفكار والمشاعر اليومية التي تثور ضدي لحظة أمسك بالقلم، وأبدأ في سطر الحروف على الورق.
الأسطورة:
تقول الأسطورة أنه يوماً ما، اجتمع بعض رجال الشمال لهدف نبيل وهو إيقاف الحروب التي عصفت بشعوبهم، جرياً وراء مزيدٍ من المساحات على الأرض. فقسموا الكرة الأرضية فيما بينهم، وكأن البشر عبيدٌ لهم. حاصروا بلداننا بخطوط وهمية، وأصبح لكل منهم بلاد وشعوب تخصهم.
تحولت الخطوط مع الوقت لأسوار عالية، فصلت بين مجموعتين من البشر. التزمت المجموعة الأولى الشمال عن اختيار، وأجبرت شعوب المجموعة الثانية على البقاء في الجنوب تحت سلطة الشمال، ومُنِعوا من الحركة دون تصريح. زاد الهاربون الأمر سوءاً، حينما طالبوا بحقهم في الحياة الحرة، فاخترع أهل الشمال المطارات والأسلاك الشائكة ورسموا الحدود وأقروا الأختام، ووضعوا عليها حراساً بأسلحة من صنعهم.
يقال أن قوانين الأسطورة أجبرت سكان الجنوب على التبرع ببعض سنوات حياتهم لسكان الشمال، كما دفعت أهل الشمال لحماية حدودهم خوفاً من انتقال “أمراض الجنوب” إليهم.
مات صغيراً:
تحدثت إليه بالأمس، وعدني أنه سينتظر لنلتقي. كان بعيداً وقريباً جداً. شعرت بنبض الحياة في قلبه رغم المسافات، ولمست رغبته في اللقاء وخوفه من الغياب. لم نتحدث طويلاً، لكني أخبرته عن مكانته الخاصة في قلبي، وعن رغبة قوية لحضوره في عالمنا.
طبطب على قلبي هامساً، وكأنه يعتذر لأنه لن يستطيع الانتظار طويلاً. اعتدت أن أوهم نفسي أن البشر يستسلمون للغياب حين يفقدون انتظارهم لأحد وارتباطهم بأشياء تخصهم في الحياة. فكررت عليه عشرات المرات أن ينتظرني لنستعيد سوياً لحظات حياة، وأكدت لنفسي أن لقاءنا العام الماضي لم يكن أبداً لقاءنا الأخير.
ربما أوهمت نفسي أيضاً أن الموت قرار فردي حين يقرر إنسانٌ الغياب بنفسه، وبحرية كاملة يعلن هزيمته من الحياة، وربما هو صدفة غير محسوبة. على أمل أن تقلل أوهامي من مخاوفي ولو قليلاً.
خلدت ليلاً للنوم، تطاردني صوره مختلطة مع استفهام عن سبب ارتباطي العميق به، رغم أن لقاءنا لم يكن إلا صدفة، حملت نبرات صوته الكثير من المحبة والأمان لحظة احتياجي لها. ربما هكذا تتعلق الأرواح ببعضها صدفة.
استرجعت وجهه والتقيته في أحلامي، رأيته يسير بخطوات بطيئة نحوي ليلقي كلمات الوداع. ربما استسلم للغياب ولم يملك فرصة لاستيعاب الرحيل. ربما نام طويلاً ولم يفق.. وربما ودع عالمنا مختاراً، ولم يستطع أن يترك لنا إلا احتمالات ملازمة لإمكانيات الحضور في عالم آخر، وربما جاء موته وموت غيره كصدفة أو كحكم مسبق من رجال الأسطورة.
النجاة صدفة:
حين نبحث وراء اختلاف متوسط أعمار البشر حسب موقعهم على الكرة الأرضية، علينا أن نعيد التفكير مرة أخرى في كل صدف الموت التي عرفناها. فربما لو ولد في الشمال أو لو ساعدته الصدفة ليعيش في وطن آخر لعاش حياةً أطول! لكنّ ما أخشاه ألا يكون الموت صدفة، بل إعمالاً لقواعد الأسطورة!
تحول الموت في الجنوب لشيء يومي تماماً. يموت الأطفال جوعاً، والشباب قهراً، ويعتبر الناس أنفسهم كباراً في السن قبل بلوغهم الستين. لا مجال لتأمنَ على روحك كإنسان، والنجاة هي الصدفة التي قد تعمل يوما لصالحك. إذا صادفك الحظ ونجوت من حرائق القطارات ومن الإهمال الطبي أو الموت تحت التعذيب في السجون، ربما لا يصادفك الحظ وأنت تصارع من أجل الحياة، فتموت على الحدود برصاص الحراس أو غرقاً في مركب صغير أثناء محاولاتك للهرب من الموت. وحكام الجنوب منهمكين بتوقيع عقود الأسلحة مع حكام الشمال، ومنشغلين بوعود حماية الحدود هنا وهناك، وإيقاف أمواج الهاربين وسجنهم بإحكام داخل أوطانهم.
عتاب:
عاتبني صديقي الألماني، -الذي لم يخرج عن حدود موطنه خوفاً من حوادث الطائرات- على عدم التزامي بقواعد الأسطورة، كما أكد لي مراراً أن خروجي من موطني الأصلي هو السبب الأوحد وراء كل آلامي. لعله محق، لقد اقترفت الخطيئة الكبرى، حين انتزعت حرية تنقلي من سادة الأسطورة.
سألته: “هل يمكنك تحمل الحياة مهدداً بالموت أو الجوع أو السجن؟ هل تستطيع أن تحيا سنواتك القليلة على وجه الأرض خائفاً؟ هل تستطيع أن تحيا صامتاً للابد؟ هل تستطيع أن تفتح عيونك يومياً لتواجه كل هذا الكم من الفقر والموت والألم البشري وجهاً لوجه؟”.
أنا لم أستطع للأسف وحاولت الهرب مرات عديدة، حاولت إنهاء الخوف من مواجهة حقيقة أن الموت لا يأتي صدفة. لكن خوفي لم ينتهِ بعد، بل زاد عليه الخوف من غياب وجوه تركتها ورائي هناك، دون فرصة للوداع، تلك الوجوه التي صنعت حياتي يوماً، والتي تمسك بنبض قلبي رغم المسافات. كل عام يمر علي هنا، تزداد تجاعيد وجوههم، وتقترب طرقهم من نهاياتها، بينما يطول طريق غربتي، وتتكثف فيه وحدتي أكثر، ويبقى لي أمل صغير في الخلفية، أن يمنحني العالم صدفة جديدة للقاء، أستطيع فيه مواجهة عيونهم ولمس أيديهم وتقبيل جباههم قبل أن يغيبوا للأبد!”.
* ناقدة وأستاذة جامعية، حاصلة على درجتين للدكتوراه في علوم المسرح وفنون الأداء
مواد أخرى للكاتبة: