عمر دياب* “هذا النص هو الجزء الثالث من نص طويل نشر في أبواب تباعاً”
من ذاكرة مخيم اليرموك في كوابيس لاجئ سوري: ما زلت حتى اليوم أصاب بالهلع حين أحضر احتفال ألعاب نارية، تسري قشعريرة في جسدي. هو صوت الرصاص الذي لم يفارق مخيلتي، رغم كل الأهوال التي جربناها بعده، والتي تفوقه بقوتها التدميرية والخانقة للحياة، لكن يبقى له طابع الاشتباك والتحدي. صوت الطلقات تحزّ الإسفلت تحت أقدامنا مطلقة شرارات صغيرة تجعل فمك يزبد، نحن الذين كنا على احتكاك دائم مع خرطشة الكلاشنكوف واستنشاق الغاز المسيل للدموع، حتى أن بعض رفاقنا أدمن تلك الرائحة. رائحة البارود تملأ رؤوسنا، نبحث في أجسادنا عن أثر إصابة، ونقلّب ثيابنا بحثاً عن بقعة دم، ثم نضحك وندخن. لا بأس نحن على قيد الحياة.
آخر معاقلنا كان الميدان الدمشقي. النظام استطاع بدباباته أن يسيطر على المدينة. كان على الجمعيات السرية أن تفعل شيئاً أمام صوت المعركة الذي لا يعلو فوقه صوت، كما ردد ويردد الطاغية حتى اليوم. انفضت هذه الجماعات بطريقة أو بأخرى، قسم كبير من شبابها في المعتقلات، قسم آخر استشهد، البعض حمل أمتعته وغادر البلاد آملاً برجعة قريبة، وقلة بقيت في دمشق تعمل “من تحت لتحت”، هؤلاء كان عليهم الخطر الأكبر. الحارات مراقبة والحواجز منتشرة وفي كل مئذنة حاو ومغتصب، مخبر في كل عقدة، عسكر في كل مينا، مع ذلك كان الجميع يعمل بدأب، رغم انحسار خياراتنا كان لابد أن يكمل واحدنا طريقه الثوري بالشكل الذي يناسبه.
كان الخطاب واضحاً، لا ثورة يجب أن تحدث في دمشق. عيوننا موجهة صوب الجنوب، “مخيم اليرموك” كان منفانا، كالفلسطينيين الذين هجّروا إليه قبل عقود، ويحاربون اليوم تهجيرات مماثلة. في “مخيم اليرموك” كانت تكتب اللافتات، تطبع المناشير، تخبأ البخاخات وأعلام الإستقلال، وصور المعتقلين والشهداء، التخطيط، الاجتماعات، والسهر من أجل أن تنجح مظاهرة طيارة في قلب دمشق. كل هذا كان يحدث في المخيم قبل أن تُرفع فيه بندقية واحدة، وقبل أن تضربه الميغ ويُحاصر وقبل أن تدخله دولة الإسلام. كان هذا أيضاً قبل أن تخرج المظاهرات في شوارعه. كان المخيم ثورة، حين قال الكثيرون إنه بعيد عنها، وحين وصفوا ما يحدث هناك بأنه “ثورة شلاتية”.
لم أكن محظوظاً لأعيش وقتاً طويلاً داخل مخيم اليرموك لكني كنت أعرف بأني بأمان حين أقطع دوار البطيخة، فلا حدود للحرية هناك حتى لو عكرت صفونا رشاشات القيادة العامة، وبلطجية جبريل، فهنا لا يشبه الـ”هناك”.
الرئة التي يتنفس منها جنوب دمشق، بالغذاء والدواء والسلاح، المنفذ السري للهاربين والملاحقين والمخذولين، البوابة التي تفصل بين عالمين مختلفين، قبل أن يقطع العالم حبله السري مع المكان الأكثر صخباً في الشام، وينتهي وحده يحارب النظام وداعش وكل قهر الأرض. الفدائيون الذين يدافعون بقلوب ملأتها الشظايا هم أبناء المخيمات، أبناء عين الحلوة ونهر البارد وتل الزعتر واليرموك، الذين يحملون قضايا الكون هم “الشلاتية”. كان شباب المخيم يلفّون اللافتات وأعلام الاستقلال داخل الجوارب لترفع في المظاهرات، كما فعل رفاق حزب العمل الشيوعي قبل ثلاثين عاماً، حين كانوا يوزعون جريدة الراية الحمراء تحت جبائر الجبصين على أيديهم المكسورة. هناك من يريد أن يكسر يد المخيم، ويقتل أهلها جوعاً. يا وحدنا يا وحدنا، كنا نحن أيضاً شلاتيّة، والمخيم بحجم بلاد ينبض بالحياة والثورة والثقافة والشعر والسياسة ولا يمكن أن يموت. من حارة المغاربة إلى لوبية ومن شارع التلاتين حتى العروبة والتقدم، ومن أبو حشيش حتى مشحم عامر، كل شبر هو القدس.
لم يكن مخيم اليرموك يدافع عن فلسطين وعن سوريا الثورة، إنما عن التاريخ، وعن تجلي الأبدية، كان يكسر المسافة بين برودة دمشق وغليان محيطها، المخيم كان البرزخ! لو قدّر أن يكتب التاريخ عن الحدث السوري، فعليه أن يفتح صفحة دمشق بالبوابة الثامنة، حيث نسينا التعب.
في ركن الدين كانت مجموعة الشباب تشبهنا وتسعى لوطن جديد أيضاً. شباب سوري له رحلة طويلة على مدى ثلاثة أعوام من الثورة، لم يتركوا حارة دون أن يكتبوا عبارات الحرية ورحيل الطاغية، بصيغة النكتة أحياناً كتب أحدهم “السيد الدكتور الرفيق الرئيس الكلب ارحل”. لم يتركوا شارعاً دون مظاهرة، ولم يتركوا مقبرةً لم يرسموا على جدرانها: “نريد أن نعيش”، وقتذاك كانت أزمة الخبز والغاز تستشري في دمشق. جاهد “فادي” لتحصيل ربطة خبز في اليوم الذي قتلت الطائرات الحربية مئات البشر في حلفايا حماه، وعلى باب المخبز تطايرت الأشلاء وتصدّر خبز الدم المشهد. كتب “فادي” بالأحمر على كل رغيف “حلفايا، الرستن، الزبداني، داعل، جسر الشغور، بستان القصر، داريا، دوما، دير الزور”، ورفعت جميعها كلافتات تناشد العالم الذي يفطر الكرواسان دون اكتراث.
لم أعش في قريتي على كتف بردى سوى أربع سنوات، ولا أحمل لها انتماء بل حنيناً. جاءت الثورة لتقطع ما بقي من نوستالجيا مترفة لقرية انكفأت على ذاتها فيما التاريخ يغيّر خارطة البلاد. للزبداني حكاية أخرى، بعد خوضها غمار العمل الثوري كان لا بد أن تلقى مصير غيرها من المدن، فقبع الموت في سمائها وأرضها، مآذن المدينة التي كُسرت تحكي ما يحصل، وأشجار تفاحها التي قُطعت. كتب على أبواب المدينة “الجوع أو الركوع”. كنت أنظر صباحاً إلى الدمار في الزبداني مع فنجان قهوة، القهوة كانت بالنسبة لي الكحول والحشيش والمورفين، خزنت الكثير منها بانتظار حصار ستشهده المدينة كأخواتها اللواتي طالبن بخلع حجاب الديكتاتور. فيما كانت الناس تخزن الرز والبرغل والسكر، كنت أستمتع بعلب القهوة المحيطة بي، نجار، كولومبوس، أبو سمرة..الخ، المدينة خاوية وتراودني فكرة اقتحام المحامص المقفلة، لأستعين على الشقاء في مكان انقطع فيه كل شيء إلا الموت.
في النهاية ليس لي إلا أن أقف أمام جدار برلين، وأنظر إلى قصص الهاربين من الجحيم، وأعرف كم يشبهوننا. هنا أحس بوقع خطىً طويلة دعستها في أوحال غابات أوروبا، وأنا أبتعد عن البلاد. هنا أختبر شعور القلق مع فكرة التصالح مع البعد. نحن المصابين بالقلق كنوع من اللامبالاة في الجغرافيا، وعدم الاكتراث للجهات، خيانة المكان، والتنصل من المسافات. نحن الذين كبرنا في الضجيج، ولم نعرف كيف نهرب من الماضي. قبورنا أصبحت مخابئ، ووجوهنا من لون التعب. سيموت التفاح في مدينتي، وسينبت الصبّار فيها. هناك خطأ في تأويل الجغرافيا، فالبلاد عكس النظرية الفيزيائية تبدو أكبر وهي بعيدة!
أن نجبر أنفسنا على النسيان فهذه استحالة، وأن نتصالح مع جهلنا بما يحدث في بلادنا فهذا أصعب وأقسى. اختزال الذاكرة والوقت، والمشي نحو عالم جديد لا صوت فيه لصرخاتنا، يبدو أقرب إلى المستحيل، أو ربما يعني أن نخسر ذواتنا. لا نريد أن نخسر الثورة، لا نريد أن نعرفّ أنفسنا بالانكسار والخذلان.
هنا استأجرت بيتاً بسيطاً، وركنت حقيبتين فوق السقيفة، وبدأ الغبار يتراكم فوقهما. لا أعرف كم يطول الوقت حتى نطأ بلادنا مرة أخرى، لكن ما أعرفه أننا كنا دوماً في منفى. وبين المنفى تعريفاً والمنفى مجازاً تعاقبت علينا المنافي.
*عمر دياب – كاتب من سوريا
اقرأ أيضاً للكاتب:
المنفى الوحيد كان الوطن… كوابيس لاجئ سوري 2
في تبديل المنافي والاغترابات / كوابيس لاجئ سوري 1
اقرأ أيضاً: