علياء أحمد.
يتصدّر السوريون أعداد اللاجئين في القارة الأوروبية، لا سيّما في ألمانيا التي تستقبل النسبة الأكبر منهم. وبعيداً عن أسباب اللجوء التي يعرفها أي متابع للأوضاع السورية، وعدا عن معاناة غالبيتهم خلال رحلتهم نحو دول اللجوء، فإنّ معاناة من نوع آخر تواجههم مع البداية الجديدة في الدول المستضيفة، وأنماط الحياة المختلفة كلياً عما اعتادوه في البلد الأصلي.
تفاصيل كثيرة قد يبدو بعضها صغيراً جدًا أو تافهًا، لكنها تذكّر السوري دومًا أنه في مكان جديد، وتضع تحديات عديدة أمام انسجامه مع ذاته أولاً ثم تأقلمه مع المحيط ثانيًا، بدءًا من أدق التفاصيل في مستقرّه الجديد. فالمنازل ذات الأرضية الخشبية مثلاً، لا تحتمل طريقة التنظيف المفضلة عند غالبية السوريات (الشطف). كما أن فرز النفايات المنزلية عملية معقدة مقارنة مع رميها جميعاً في سلة واحدة، على نحو ما هو الحال في سوريا، عدا عن الأرصفة والطرقات المقسمة ما بين المشاة والدراجات وباقي وسائط النقل العام، ذات المواعيد والمواقف المحددة، وهكذا وصولاً إلى تحدّي اللغة والعمل أو متابعة الدراسة، وما يتطلبه كل ذلك من جهد ومتابعة، والإجراءات البيروقراطية التي لا حاجة للحديث عنها.
لا شكّ أن تعامل الأفراد مع تجربة اللجوء تختلف باختلافاتهم الفردية، بما تحمله من سلبيات وإيجابيات. ثمة من يتصالح مع الواقع ويختار المضي قدماً لبناء مستقبله من جديد، ولا يختلف خياره إن كان ممن ينتظرون أن تنتهي كارثة بلاده ويعم فيها السلام، لينطلق عائداً إليها على متن أول طائرة، أو أنه ممن قرروا القطع مع ماضيهم دون رجعة، واتخذوا قرار البدء بحياة جديدة والاستقرار نهائياً في البلد الجديد.
في الحالتين عمل هذا النموذج على التأقلم مع الواقع وفق ما يلائمه، دون أن تهتز ثقته بنفسه أو بخياراته، متوافقاً مع ما يناسب شخصيته في المجتمع الجديد، منتبهاً إلى وجود فرص متاحة يثبت فيها جدارته وينال استحقاقاته،الأمر الذي لم يتسن الحصول عليه للكثير من المهمشين في الوطن. وإن إبداعات السوريين في البلاد الجديدة في مختلف المجالات أكبر دليل على ذلك، في المجتمع والعمل والدراسة والفن وحتى في مجال الطبخ، حيث ساهمت ثقافة المطبخ السوري بتغيير الصورة المسبقة عنهم في أذهان مستضيفيهم، ويسجل للسيدات السوريات إبداع موائد سخية لفتت النظر إلى مهارات تستحق التقدير.
في المقابل هناك نموذج على النقيض تماماً من النموذج الأول، حيث دخل قوقعة الحنين وأغلقها على نفسه مع الذكريات، يحلوها ومرّها، رافضاً أيّ نمط جديد مختلف عمّا ألفه سابقاً، داخلاً في دوامة المقارنات التي لا تنتهي، والمحكومة بعاطفته المنحازة لوطنه وعاداته وتقاليده. هذا التقوقع سيزيد من وطأة غربته على الصعيد النفسي ابتداءً، وسيعطل من إمكانية تأقلمه على الصعيد الاجتماعي، وبالتالي تزداد مشكلاته والتحديات التي تواجهه، علماً أن الصعوبات كثيرة لمن يريد التأقلم، لكنها حكماً أكثر صعوبة، كما أنها تراكم عراقيل إضافية أمام من يرفض التكيّف مع واقعه الجديد، تحت حجج وذرائع واهية تدحضها تجارب ناجحة لآخرين ينتمون للمرجعيات الاجتماعية ومنظوماتها الأخلاقية أو الدينية نفسها.
في بلدان اللجوء تتأرجح سوريا ما بين احتمالات أبنائها وخياراتهم، فترتفع تارة في الثقافة والعلم والفن والإبداع، وتنحدر طوراً في النتائج الكارثية للحرب والأمراض الاجتماعية، التي حملها كثيرون من أبنائها متوهّمين أنها علامتهم السورية الفارقة! فتراهم يرفضون الاختلاف، عنفيّون، يباهون بنظرتهم الدونية للمرأة، لا يحترمون الآخر، أيّ آخر مختلف، سواء كان من أبناء جلدتهم أو من المجتمع المضيف.
في تجربة اللجوء يدخل الجميع معركة لا مفر منها فرضها الواقع الجديد، والنتيجة في الغالب تتخذ أحد شكلين: إما التأقلم والتكيف وربما الولادة من جديد، أو الاعتكاف والموت البطيء مع الماضي. وتبقى سوريا في انتظار أن يعود الجميع، ولكن شتّان بين عائد ناجح متميز، وبين من يعود مكسوراً بخفي حنين.