لا تخف، أنتَ لستَ غريبًا، الجميع هنا غرباء. هذا ما تقوله برلين لزوارها. مدينة بألف لغة ولون وأغنية. مدينة تبتلع الزحام لتنثره على ملامح سكانها وزوراها، فيصحو كل من فيها: زوارًا، وينام كل من فيها: سكّانًا.
عند كل زاوية، ثمّة من يغني: أفارقة، شرق أوسطيين، لاتينيون، آسيويون، ومن كل بقاع الأرض. وثمة من يستمع أيضًا، وثمة من يعبر هذا الجمال بلا مبالاة مدهشة، مدهشة بالنسبة إليّ على الأقل، أنا القروي في وطني، القروي في منفاي، السجين في ثلاثة شوارع لا أجد سواها للتسكع في قريتي مع ظلال الأشجار. أشجار برلين بلا ظلال، وما الحاجة للظلال في مدينة تمنحك صديقًا عند كل ضوء؟
أحاول ما أمكن استعادة توازني، فأنا لا أريد الاقتناع بأنّي أعيشُ في عالمٍ موازٍ لحياتي في سوريا. قرويّ، أكثر مغامرات حياته إثارةً، هي رحلةٌ إلى العاصمة ليأكل “بيتزا” حقيقة طازجة، وربما ليقتني سروالًا ممزقًا ببراعة مصممي الأزياء، فقد ملّ السراويل الممزقة نتيجة الاستعمال. هربت من جنون الفكرة، فكرة العالم الموازي، وقررت مواجهة الواقع، وصنع قدري بيدي. أجل سأنتقل للعيش في العاصمة. اكتفيتُ من جمال الغزلان في الغابة القريبة، ومن هدوء المقابر الذي يسود شوارع القرية ساعة الذروة. أمامي عشرون عامًا على الأقل لأبلغ سنّ التقاعد، أيُعقل أن أمضيها كلها في هذه الدورة التدريبة على حياة المتقاعدين؟!
أبدأ أسئلتي الساذجة عن إيجارات البيوت، وفرص العمل، والمناطق القريبة من مركز المدينة، والأسواق الرخيصة، وأسعار بطاقات المواصلات، أجل.. تلبّستني فجأة حالة أنّي انتقلتُ للعيش في برلين، بل وبدأت بالتعاطف مع جيراني في قريتي لأن حياتهم مملة تفتقد المتعة والإثارة. وتجنبًا للإحباط لم أسأل عن العقبات القانونية، ولا عن سياسة الحكومة التي تعرف أين يجب أن أعيش وماذا يجب أن آكل ومن هم أفضل الأصدقاء الذين عليّ التواصل معهم. بنيتُ خططي كأنّي إنسان طبيعي، في ظرف طبيعي، يعرف ماذا يريد أن يعمل، وأين يبدأ البحث عن العمل. أمضي في خطة تجنّب الإحباط حتى النهاية، فلا أستمع لإجابات أسئلتي، الإجابات التي تبدو معها القوانين والسياسات خلاصة تفاؤل البشرية.
أتركُ كلّ هذا، لأجوب المدينة.
حوار صامت، عميق، بين ذاكرة الحرب ومشروع الحياة، طرفاه: أحياء بأكملها تكرر ذاتها، وأبنية بلا ملامح، بعد أن محت الحقبة الشيوعيّة كل فرصة للاختلاف، وفي الشوارع: لا أحد يشبه الآخر، خليط ممتع مدهش مكثّف للكوكب وسكانه وحضاراته وثقافاته. مطاعم من كل الجنسيات، وموسيقا من كل الأمزجة.. وفي الطرف المقابل، برلين المبنية بعد الحرب، وبعد سقوط الجدار، وبدء المدى بالانفتاح.
أقرأ الرسائل بين الأماكن، وعابريها، يمنحني الزحام شعورًا دافئًا بالراحة، فأنا مسكون بهواجس ما بعد الحرب، أي حرب، وعجزي عن الفعل اليوم، يجعلني سجين المستقبل، لذا، يعطيني زحام برلين، وحياتها، درسًا لا يتكرر في فنّ قراءة التاريخ: يمكننا إن أردنا أن نعيد الحياة إلى الخرائب، يمكننا أن نصنع أجيالًا تؤمن بالإنسان وحريته، وحقوقه، ومساواته بكل البشر، مهما كان الحاضر أسودَ، ومهما كانت أجيال اليوم مقسّمة حتى الشقاق بين ضحية ومجرم، يمكننا دائمًا إعادة البناء.
تربّت برلين على كتفي، وتكرر: “لا تخفْ، أنتِ لستَ غريبًا، الجميع هنا غرباء”. وأنا، الموقن من اغترابي، أزداد ألفةً لكل هذا الاغتراب المركّز ليكوّن المدينة، التي لم تكن عاصمةً وحسب، كانت تجمّعًا لعواصم العالم، وكنت كيتيم يبحث عن أمه في حفل لتكريم الأمهات، كنت أبحثُ عن دمشق. لا عن دمشق التي غادرتها، بل عن دمشق التي أحلم بالعودة إليها، حرّة من “سوفييت” العصر، ولم يبق من “جدرانها” التي تفصل أبناءها عن الحرية إلا رسوم الزوار.