حسام الدين درويش.
أجرى موقع دويتش فيلله حوارًا مع بسام طيبي. وقد حمل الحوار عنوان: “بسام طيبي: نحن المهاجرون نشعر بالقلق”. وقد تم نشر مقتطفاتٍ من هذا الحوار على موقع “أبواب”. وفي تقديم الحوار وخلاله، تم تقديم الأستاذ طيبي، أو قدم نفسه على أنه “ألماني من أصول سورية”، ويعتبر سوريا “وطنًا له”، و”أستاذ للدراسات السياسية بجامعة غونتيغن في ألمانيا لفترة طويلةٍ”، و”مسلم”، و”إنسانٌ عقلانيٌّ وليس فيلسوفًا أخلاقيًّا”، وأنه كان في شهري آذار ونيسان “أستاذًا في الجامعة الأمريكية في القاهرة”.
ينتقد الأستاذ طيبي ما تم تسميته بـ “سياسة الأبواب المفتوحة” أو “سياسة الترحيب باللاجئين” التي أعلنتها ميركل وحكومتها، على الرغم من أن هذه الأبواب قد تم إغلاقها منذ زمنٍ طويلٍ، وبالرغم من أن السياسة لم تعد متبعة منذ الاتفاق، في هذا الشأن، بين تركيا والاتحاد الأوروبي، على الأقل. ولهذا ساورتني الشكوك فيما إذا كان هذا الحوار قد تم فعلاً منذ فترةٍ قريبةٍ، أم أنه قديمٌ ويعاد نشره. في كل الأحوال سأناقش ما جاء في هذا الحوار، بغض النظر عن كونه قد جرى منذ يومٍ، كما يبدو من تاريخ النشر، أو منذ عامٍ.
لماذا يعتقد الأستاذ طيبي أنه ينبغي، أو بالأحرى يجب، غلق الأبواب في وجه اللاجئين وعدم الترحيب بهم؟ في توضيح موقفه، يرى الأستاذ طيبي أن سياسة الأبواب المفتوحة تفتقر تمامًا إلى العقلانية، ويبالغ في التنديد بهذا الغياب للعقلانية لدى ميركل والحكومة الألمانية، لدرجة القول “هناك عقلانية في وطني سوريا أكثر من ألمانيا”. فهل يعتقد الأستاذ الطيبي فعلاً بصدق ما قاله؟! وهل المقصود بالعقلانية الموجودة في “وطنه” سوريا، تلك التي يتسم بها “تنظيم الأسد” وحكومته؟ من الممكن أن يفهم المرء ذلك، ما دامت المقارنة قد تمت في سياق الحديث عن افتقار سياسة ميركل وحكومتها، في خصوص اللاجئين، للعقلانية. ويتعزز هذا الانطباع عندما يقوم الأستاذ طيبي بالفصل بين الأخلاق والسياسة، بقوله: إن القضية [قضية اللاجئين و/أو استقبالهم] ليست قضية مرتبطة بالأخلاق بل بالسياسة”. ومن الواضح أن “تنظيم الأسد” هو من أكثر الأنظمة نجاحًا في الفصل بين الأخلاق والسياسة (الداخلية تجاه شعبه خصوصًا).
غريبٌ ومستهجنٌ هذا الفصل بين الأخلاق والسياسة في قضيةٍ هي من أشد القضايا التي تظهر فيها الصلة الوثيقة بين الأخلاق والسياسة. ويعلم الأستاذ الطيبي نفسه، بوصفه أستاذًا للعلوم السياسية، أن معظم الفلاسفة والمفكرين السياسيين المعاصرين يؤكدون الارتباط الوثيق بين ميداني السياسة والأخلاق، لدرجة أنه أمكن سابقًا، ويمكن حاليًّا تسمية العلوم الإنسانية والاجتماعية في مجملها –ومن ضمنها علم السياسة- بـ “العلوم الأخلاقية”. لا أعتقد أن أستاذ العلوم السياسية يقصد بالفعل ما قاله، وربما كان ذلك التعبير زلة لسانٍ، مثلما هو حال تعبير “وجود عقلانية في سوريا أكثر من ألمانيا”، ومثلما هو حال الكثير من التعابير الأخرى الواردة في الحوار. إذ يعلم الأستاذ طيبي أن الهدف الأقصى لسياسة أي بلد هي “خير” شعبه، كما يعلم أن القيم الأخلاقية جزءٌ من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها ألمانيا وغيرها من الدول، والأهم من ذلك أن هذه القيم معتمدة رسميًّا في القانون الأساسي الألماني الذي ينص، على سبيل المثال، في فقرته الأولى: “كرامة الإنسان لا يجوز المساس بها. وباحترامها وصونها تلتزم جميع السلطات في الدولة”.
هذا التذكير بتضمن الدستور (أو القانون الأساسي) الألماني نفسه، الذي ينبغي أن تلتزم به الحكومة الألمانية، لقيم أخلاقية، قد يساعد على إقناع الأستاذ طيبي بعدم معقولية فصله المستهجن بين السياسة والأخلاق. ففي هذا الحوار، يبدو الأستاذ الطيبي أحيانًا حريصٌ على هذا الدستور الألماني ومضامينه، ويظهر ذلك خلال تحذيره من خطر قدوم اللاجئين السيئين: “هناك إسلامويون يأتون إلى هنا ويودون نشر أشياء لا يسمح بها الدستور الألماني”. هنا يبدو حرص الأستاذ الطيبي على توجيهات أو تعليمات الدستور الألماني واضحًا. لكن هذا الحرص ليس موجودًا دائمًا، لدى الأستاذ طيبي، ولهذا لا يمكن المراهنة على أن يفضي تذكيرنا السابق إلى تغيير وجهة نظر الأستاذ الطيبي الذي يذهب في رفضه لسياسة الترحيب باللاجئين إلى حد عدم الاكتراث بالدستور الألماني نفسه، عندما يكون غير منسجمٍ مع توجهاته المعارضة لسياسة الترحيب باللاجئين. فمن الواضح أن الأستاذ الطيبي يرغب في تحديد عدد اللاجئين الذين يتم قبولهم في ألمانيا، على الرغم من أن حكومة ميركل تقول له ولغيره من المطالبين بذلك: “ليس هناك في الدستور الأساسي ما يسمح بتحديد عدد المرحب بهم من بين اللاجئين. ليس هناك قوانين تنطلق من أرقام ونسب”. لكن ذلك لا يقنع الأستاذ طيبي الذي يبدو حريصًا على الدستور الأساسي، فقط عندما يكون ذلك الدستور مناسبًا لما يريده هو شخصيًّا.
إن فصل السياسة عن الأخلاق، في التعامل مع قضية اللاجئين، لن يفضي إلى اتباع سياسة غير أخلاقية (أي سياسة لا تستند إلى الأخلاق ولا تتعارض معها بالضرورة)، بل إلى سياسة لا-أخلاقية، أي سياسة تتناقض مع أبسط الأبجديات الأخلاقية. ولا يبدو معقولًا أو حتى عقلانيًّا المطالبة بهذا الأمر. وقد صدرت العديد من الكتب وأقيمت الكثير من الندوات التي توضح الواجبات الأخلاقية الملزمة سياسيًا في التعامل مع اللاجئين.
لكن لماذا يذهب الأستاذ طيبي في معاداته لسياسة الترحيب باللاجئين إلى هذا الحد المتطرف الذي يجعله يرى عقلانية في سوريا أكثر من ألمانيا، ولا يأبه للدستور الأساسي حين لا يناسبه ما جاء فيه، ويصطنع فصلًا غير موجودٍ بين السياسة والأخلاق، ليس على صعيد الحكومة الألمانية فحسب بل وعلى صعيده الشخصي أيضًا. فإذا كان الأستاذ طيبي ينتقد ما وصفه بالموقف الأخلاقي لميركل وحكومتها، لأنه يرى أن السياسة منفصلة عن الأخلاق، فما هو موقفه الأخلاقي – بوصفه إنسانًا وليس سياسيًّا – من سياسة الترحيب باللاجئين؟ في الحقيقة يرفض الأستاذ طيبي تبني أي موقفٍ أخلاقيٍّ صريحٍ، في هذا الخصوص، ويتصرف كما ينبغي للسياسي، من وجهة نظره، أن يتصرف. فعند سؤاله: “ألا يجب عليك أن تكون مسرورا بالاستعداد الكبير للألمان باستقبال مواطني بلدك من دون تحديد عددهم؟” يجيب: “أنا إنسان عقلاني ولست فيلسوفًا أخلاقيًا. …”. لا أعرف ما علاقة سعادة الأستاذ طيبي أو تعاسته (وهي موضوع السؤال المطروح) بكونه أو عدم كونه فيلسوفًا أخلاقيًّا. وهل من الضروري أن يكون المرء فيلسوفًا أخلاقيًّا لكي يتبنى موقفًا أخلاقيًّا؟ ثم هل ثمة تناقضٌ بين الأخلاق والعقلانية أيضًا من وجهة نظر الأستاذ طيبي، بحيث تكون “عقلانيته” هي التي تقف حائلًا أمام تبني موقفٍ أخلاقيٍّ؟
يبدو أن الأستاذ الطيبي يتبنى “أردأ” أشكال العقلانية، التي تظهر مثلًا في نظرية الخيار العقلاني التي لا تستند إلى أي أخلاقٍ في تحديد الفعل العقلاني، وإنما تستند إلى العقل الحسابي والمصلحة الخاصة فقط. فبعيدًا عن حرصه المصطنع على الدستور الأساسي ومحاولته الاستناد إلى هذا الدستور وإلى الإسلام والفلسفة وأقوال بعض العلماء، يبدو أن موقفه ناتج بالدرجة الأولى عن خوفه، بوصفه أجنبيًّا، من أن تؤدي موجة اللجوء إلى الإضرار به شخصيًّا. وهو يقول ذلك صراحةً: “نحن الأجانب الذين يعيشون هنا منذ سنوات طويلة لدينا شعور بالقلق والخوف من أن يصبح المرحبون حاليا في يوم ما نازيين جدد فيعود علينا ذلك بالشر”. هو خائفٌ من الإمكانية الدائمة ﻟ “سقوط الألمان في سحر التطرف”، وخائفٌ من أن تفضي سياسة الترحيب باللاجئين إلى سقوط الألمان في هذا السحر، فيؤدي ذلك إلى نتائج سلبية عليه، بوصفه “أجنبيًّا”، وفقًا لتعبيره هو نفسه.
كتبت، في مقالٍ سابقٍ، أنه من الصعب على اللاجئ أن يكون إنسانًا “عاديًّا”. فعلى سبيل المثال، عندما يحدث اعتداء أو هجوم إرهابي، يتخذ معظم اللاجئين موقفًا “أنانيًّا” لا يكترث كثيرًا بالضحايا، بقدر اهتمامه بألا يكون الإرهابي منهم وألا ينتج عن هذا الهجوم نتائج سلبية عليهم. وقد أكدت في خاتمة ذلك المقال ضرورة السعي إلى تبني ردات فعلٍ أكثر أخلاقيةً وإنسانيةً، وأن نكون، في ردات فعلنا، بل وفي فعلنا، ناسًا “عاديين و”طبيعيين”، بوصف ذلك شرطًا ضروريًّا لاستعادة إنسايتنا المسلوبة.
بعد قراءتي لكلام الأستاذ طيبي، بدا لي أن استعادة هذه الإنسانية ليست بالأمر السهل على الإطلاق. إذ يمكن أن نبقى عشرات السنين في ألمانيا ونحن نتصرف بوصفنا أجانب خائفين على أنفسهم من تطرفٍ محتملٍ يمكن أن يسقط فيه الألمان، غير آبهين فيما إذا كان موقفنا أخلاقيًّا أم لا، وبالنتائج السلبية الممكنة أو المحتملة التي يمكن أن تترتب على موقفنا أو على تبني الآخرين لهذا الموقف. هذه الأنانية النفسية (بوصفها تمحورًا حول الذات) والأنانية الأخلاقية (بوصفها تفضيلاً لخيرٍنا الأصغر على خيرٍ أكبر أكثر إلحاحًا) هي تشويهٌ لإنسانيتنا، و/أو نتاجٌ لإنسانيتنا المشوَّهة، حتى لو اتخذت صيغة العقلانية (المصطنعة) والعلمية (المزعومة).
مقالات ذات صلة
بسام طيبي، عن أسباب قلق المهاجرين القدامى في ألمانيا
“من هم، وكم عدد اللاجئين الذين ينبغي لنا استقبالهم؟”
اللاجئون (المسلمون) و”الإرهاب”: لماذا يصعب على اللاجئ أن يكون إنسانًا “عاديًّا”؟
كرامة الإنسان – المادة 1 من الدستور الألماني