أجرت الحوار: غيثاء الشعار*
“عالم آخر” هو اسم الألبوم الثامن الذي سيتم إطلاقه في الخامس من الشهر الجاري، للموسيقية وعازفة الفلوت السورية الفرنسية، ابنة مدينة كفرنبل، نيسم جلال. والتي رغم زعمها أنها ابتعدت في هذا الألبوم قليلاً عن هموم الشرق والمأساة السورية، إلا أن المستمع لا بد أن يشعر بالألم والغضب في ألبومها هذا، منذ المقطوعة الأولى. يحتوي هذا الألبوم على 12 مقطوعة موسيقية من مؤلفاتها، تتضمن خمسة مقطوعات بتسجيلٍ حي مع الأوركسترا الوطنية في بروتاني.
درست نيسم جلال الموسيقى الكلاسيكية والفلسفة في فرنسا، وتعلمت قواعد الموسيقى العربية وعزف الناي في سوريا لعدة أشهر، ثم في مصر التي ستترك أثراً كبيراً عليها وعلى هويتها الموسيقية، وبعدها في لبنان لبعض الوقت. بدأت بتأليف أول ألبوماتها في العام 2008 والذي صدر في العام 2011 مع تأسيس فرقتها التي حملت اسم إيقاعات المقاومة، ومن بعد ذلك أطلقت عدة ألبومات أبرزها “أسلوب حياتي” 2015، و”الموت ولا المذلة” في العام 2016.
الثورة السورية حاضرة بقوة في انفعالاتها، في موسيقاها وفي حفلاتها. انضمت إليها منذ انطلاقتها في العام 2011. وبالمقابل عززت هذه الثورة هويتها السورية وانتمائها لوطنها، ثم إلى كفرنبل التي كانت حالة فريدة وجميلة في سوريا الثورة.
المرأة الموسيقية، الأصول العربية والنشوء في المهجر، كلها قضايا تؤثر على تشكيل الهوية وعلى النضال من أجل تحقيق الذات ومعرفتها، لذلك التقينا في أبواب مع نيسم جلال للخوض في هذه القضايا و للتعرف أكثر عليها وعلى تجاربها، كما لنتحدث قليلاً عن ألبومها الجديد:
- عند الاستماع إلى مؤلفاتك نجد الجاز، الموسيقى العربية والموسيقى الغربية، الإيقاعات الهندية والافريقية، كما بعض الجُمل الموسيقية المعاصرة ولمحات صوفية. هل تشعرين بالراحة مع كل هذه الأنواع الموسيقية والإيقاعات المختلفة؟! أم أن من بينها ما تميلين إليه أكثر؟
هذا السؤال صعب قليلاً. الموسيقى الغربية مبنية بشكل هارموني عامودي، والموسيقى العربية التقليدية لا تحتوي على الكثير من الهارموني ومبنية بشكل أفقي، مع خصوصية هذه الموسيقى وتنوع مقاماتها وقواعد تأليفها، وعلاقات العلامات الموسيقية مع أساس المقام الذي يكون نوع من الهارموني. هذا النوع من الموسيقى المبنية بشكل أفقي يشعرني بالراحة، كالموسيقى العربية والهندية أو الأفريقية مثلاً.
- نشأتِ في فرنسا، عالم بعيد عن الموسيقى العربية. عند الاستماع إليك وأنت تعزفين الناي والمقامات العربية، يصل إحساسك بهذه الموسيقى تماماً إلى المستمع. كيف استطعت بناء هذه العلاقة مع الموسيقى العربية التي تعتبر غريبة عن الأذن الغربية، حتى أن بعض المقامات تٌشعر المستمع الغربي بالتنافر؟
خلال دراستي في الكونسرفتوار تعلمت أن أي نوتة ليست (تون أو نصف تون) هي نشاز. لذلك عندما كان أبي يستمع إلى الموسيقى العربية كنت أقول له، أن هناك خطأ ما. شيء ما نشاز في تلك المقطوعات، الأمر الذي تبين لي لاحقاً أنه الربع التون غير الموجود في الموسيقى الغربية. لكن لأنني واجهت العنصرية في فرنسا بسبب أصولي المهاجرة، صار لدي تحدٍ و فضول للتعرف على الثقافة والموسيقى العربية.
عندما ذهبت إلى سوريا لتعلم الناي، كنت أشعر بالإزعاج في كل مرة يعزف فيها أستاذي الربع تون، لكنني كنت مستمتعة بهذا الازعاج، وأردت إزعاج الثقافة الأوربية التي تربيت فيها والتي أشعرتني بالعنصرية. ولفترة ما صار عندي ردة فعل، ورفضت استخدام النوتة الموسيقية المكتوبة (sheets) رغم أنني أتقنها، ربما كنوع من الانفصال عن الثقافة الموسيقية الغربية التي تبنيتها رغماً عني. طبعاً في وقت لاحق عدت إلى النوتة، وتصالحت مع هويتي المختلطة، ولم أعد أتعامل مع الهوية الفرنسية والعربية على أنهما متناقضتان، ما أعتبره نجاحاً. البحث عن الهوية، جعلني أتقبل أشياء تزعجني، أكثر من أناس ليسوا بحاجة لتقبل هذا الازعاج.
- الموسيقى العربية بشكل أو بآخر غير (ممنهجة) إذا جاز التعبير، حيث لا يوجد في عالمنا العربي الكثير من الكتب التي يمكن من خلالها تعلم العزف على الآلات العربية أو على المقامات، وأصول الموسيقى العربية وقواعدها غالباً ما يتم نقلها وتعلمها بشكل شفهي عبر أساتذة محترفين، على عكس الموسيقى الغربية. كيف فهمت هذه الموسيقى وتعلمت المقامات التي أوصلتك الى الارتجال لاحقاً، رغم عدم وجود هذه المراجع؟
بالرغم من أنني أعتبر أنني ما زلت أتعلم الموسيقى العربية ولم أتقنها بالكامل، إلا أنني تعلمتها فعلاً عن طريق الحياة اليومية، حيث في مصر الموسيقى موجودة في كل مكان، من التاكسي إلى القهوة إلى بيوت الأصدقاء. كما استمعت الى التجويد الذي اعتبر أنه روح الموسيقى العربية، في مصر كان الأستاذ عبده داغر يعلمني أنا وأصدقائي متطوعاً، حيث كان يعزف مؤلفاته وكنا نعيد العزف بعده، كما كنا نجلس بالساعات إلى جانبه وهو يرتجل على كمانه.
برأيي فكرة التعليم الشفهي، شيء جميل جداً، كما فكرة أن لكل أستاذ وجهة نظره الخاصة شيء رائع. في الكونسرفتوار نتعلم كل شيء مكتوب ولا يصلنا أي شيء من الروح الخاصة للأستاذ أو الموسيقي الذي يعلمنا.
في تعليم الموسيقى الهندية، العلاقة بين الأستاذ والطالب مقدسة، لأن الأستاذ يعطي معارفه الخاصة أو ما تعلمه من أساتذته السابقين، فهناك سلسلة تراثية وشخصية وروحانية موجودة في هذه الحالة غير (الممنهجة)، وربما أيضاً هذا أحد ميزات الموسيقى العربية.
- هل شعرت يوماً ما في سوريا و مصر أو حتى فرنسا بأنك امرأة موسيقية، وليس موسيقية فقط؟ أي، هل شعرت أنه لم يتم أخذك بالجدية التي تستحقينها فقط لأنك امرأة؟
تجربتي في سوريا مختلفة جداً عن تجربتي في مصر. عندما وصلت إلى سوريا تواصلت مع بعض الموسيقيين هناك، وكلهم تعاملوا معي بفوقية شديدة وغرور وتجاهل، ولا أيّ موسيقي من الذين طلبت منهم أن نعزف معاً كان مهتماً بالتعرف عليّ كموسيقية، وهم كانوا طلاب في المعهد العالي في دمشق، وغالبيتهم قادمون من طبقة اجتماعية واقتصادية تعتبر (مرتاحة)، ربما لو صدف أن تعرفت على أناس أبسط كان التعامل سيكون مختلفاً.
هذا كله بالإضافة الى تضييق أمني، جعلني أغادر سوريا إلى مصر التي لاقيت فيها الترحيب، حيث عزفت مع أهم العازفين هناك ودرست مع أساتذة محترفين، لذلك قررت البقاء لفترة طويلة. في مصر عدد الفرق الموسيقية وعدد العازفين أكثر من سوريا، كما أن الموسيقيين ينتمون إلى طبقات مختلفة، ولا أعتقد أن عدم الاحترام الذي لاقيته من الموسيقيين السوريين يعود لأنني امرأة، بل لأنني أتيت بمفردي غير مدعومة من أحد أو لأن بعضهم مغرورين. لكن في بعض الأوساط الاجتماعية في مصر أو سوريا أعرف أنهم لا يرحبون بفكرة أن تكون المرأة موسيقية، وهنا في فرنسا، تعرضت فعلاً لمواقف تم فيها التعامل معي كموسيقية امرأة.
ألبوم “عالم آخر” لعازفة الفلوت السورية الفرنسية “نيسم جلال”: من إنتاج شركة فرنسية مستقلة، بالإضافة إلى دعم مادي من وزارة الثقافة الفرنسية وجمعيات خاصة أخرى تدعم الموسيقيين. رافقها بالعزف كل من مهدي شايب (ساكس، سوبرانو)، كارستين هوخابفل (غيتار، تشيلو)، داميان فاريون (باس) وآرنو دولمين (درامز).
الألبوم متوفر بشكل رقمي اعتباراً من 5 فبراير/ شباط. كما سيصبح متوفراًَ في متاجر الموسيقى في ألمانيا اعتباراً من 5 مارس/ آذار.
*غيثاء الشعار. كاتبة سوريّة، تدرس (السياسات العامة) في برلين.
خاص أبواب