راده حنانا | عازفة بيانو سورية مقيمة في ألمانيا.
اليوم زارني الملك. طرق الباب و قال لي: “افتحي الباب، قد أتى الملك”.
لم أفتح، فهو غالبًا قد أخطأ برقم الغرفة. أظن أنه كان يقصد الغرفة المجاورة، فالنساء الصغيرات الثلاث المقيمات فيها، غالبًا ما يأتيهن زوار كثر، وبالرغم من وجود أطفالهن معهن، فهن لا يتوقفن عن العمل.
من حسن الحظ أنني كنت قد انهلت على الحراس ومكتب الإدارة بالشتائم الممزوجة بالدموع والتعرق والسوائل المخاطية التي لم تكف مناديلي للسيطرة عليها، وتم نقلي بعدها إلى غرفة تقفل من الداخل. كان باب غرفتي السابقة مكسور القفل، ولم أستطع إغلاقه إلا بحقيبة السفر غير المناسبة لعمل كهذا. كنت أشعر بأمان أكثر عندما تأتي زميلة ما لتنام معي في الغرفة، لكن الزميلات لم يبقين طويلاً للأسف، يومان أو ثلاثة ويتم تسفيرهن.
يومها كنت أجلس في غرفتي أبدل ملابسي وأستعد للنوم، وإذ بحقيبة سفري تندفع للأمام بسرعة ويفتح الباب. لم أستطع رؤية المتسلل إلى مبنى النساء والأطفال هذا ولم يستطع رؤيتي، فقد كانت صرختي مفاجأة وقوية، ومن الواضح أنها أخافته.
ارتديت ملابسي بسرعة ونظرت من النافذة علّي أرى حارسًا أو شرطيًّا ينقذني، لكنها الساعة الواحدة بعد منتصف الليل والقرية تحولت لمقبرة كبيرة. كان أمامي خيار وحيد، ألا وهو الدفاع عن نفسي.
لم أكن أملك أسلحة ولا حتى سكينًا أو أحجارًا، فاخترت قلما بعناية شديدة، حاد الرأس وسميك الجذع لكي يصمد لأكثر من طعنة إن اضطرني الأمر. “الرقبة أو الخاصرة وبقوة كبيرة ودون تردد. الرقبة أو الخاصرة ودون تردد” وخرجت من الغرفة.
كان الرجل يحاول فتح أبواب أخرى. سألته بأعلى صوت ممكن عما يفعله هنا علّ إحداهن تستجمع قواها وتأتي لتقف بجانبي في هذه المواجهة المخيفة، لكن لا أحد. “أتيت لأدخن سيجارة” كان جوابه، وعندما رأى ألّا مساعدة أو دعمًا لدي، بدأ صوته بالانخفاض، وعيناه تحولتا إلى الرومنسية وبدأ بالاقتراب أكثر. لم أطعنه، دفعته خارج الجناح وأغلقت الباب الذي كان أيضًا بلا قفل.
عدت إلى سريري، جلست عليه باستعداد للطعن “الرقبة أو الخاصرة ودون تردد” إلى أن خارت قواي في الساعة الرابعة صباحًا، وغرقت في نوم عميق.
اشتقتُ لأمي.
ماما الحبيبة،
اشتقت لك كثيرًا. اشتقت لذراعيك يضمانني لأشعر بالاطمئنان. أتذكر حتى الآن كم من مرة جلست في حضنك أبكي، وأتذكر كيف كنت تعدينني بالفرج القريب. كنت أظن أن لديك خططًا لمساعدتي، وأن في ذهنك حلاً لكل مشكلة. الآن وبعد أن مر علي وقت أكثر وأنا أخوض الدرب وحيدة، أدرك أنه لم يكن لديك حلول، أو خطط، لكنك تعرفين الحياة حق المعرفة لتعدي بأشياء لا تعرفينها ولست واثقة منها.
ماما، هنا أشعر بوحدة خانقة ليست بغريبة عن وحدتي في الولايات المتحدة. بدأت ألمانيا تكشف عن أنيابها في وجهي. بدأت حدودها تصغر حول سجني القانوني لتجعلني أنسى عدَّ الأيام. قد حلمت مرات كثيرة في هذا المخيم ببيتنا في دمشق، أشتاق له كثيرًا وأشتاق لكم فيه.
ماما، هنا أخجل بمعاناتي كلما سمعت قصة من هرب من اليونان إلى ألمانيا سيرًا على الأقدام، نساء وأطفال ورجال كلهم اتخذوا القرار بالمخاطرة بالحياة لأجل الحياة. أخجل أن أحكي عن معاناتي في بداية الثورة وعن نجاتي من الموت ثلاث مرات. أخجل أن أحكي عن صعوبة حياتي في لبنان والولايات المتحدة من فقر وتعاسة وتفكير بالانتحار، لا لأجل الموت، بل لأجل الهرب من حياة ليست بالحنونة علي. أخجل من وحدتي في غرفة المخيم هذه عندما أتذكر معتقلينا ومعاناتهم. أخجل من توافر الأكل والمشرب، وما خجلي إلا سبب آخر يحزنني، لأنني لم أعد أحس بقوة الشابة “راده” التي استطاعت النجاة من الحرب وبناء حياة في بيروت. لم أعد أشعر بحماسها ولا اندفاعها، جل ما أشعر به هو قلب قطة صغيرة تختبئ في زاوية الغرفة المقفلة منتظرة أن يفتح أحدٌ الباب لتنسل خلسة دون إحداث جلبة. أحلام كبيرة بالعزف مع فرق سيمفونية، والسفر للعزف في كل أرجاء العالم كلها تضاءلت وانطوت في دفاتر الذكريات، أصبحت الأحلام ذكرى قبل أن تصبح واقعًا.
ماما الحبيبة. هنا في هذا المخيم لم يبق لي مخرج غير مخيلتي، المخيلة التي تخاف من المستقبل فترجع إلى الماضي المسالم. ويخيفني أيضًا، أخاف أن أشطح كثيرًا بذاكرتي فأجن. أستيقظ عدة مرات كل يوم من أحلام اليقظة الممتعة لأرى البرود الذي أعيشه.
ماما الحبيبة، أنتظر لقاءك بفارغ الصبر لأحكي لك الكثير الذي خفت مشاركتك إياه عبر الهاتف.
مشتاقة لك ولأبي كثيرًا. علّ اللقاء سيكون قريب.
2/12/2014
يتبع….
مواد ذات صلة.