عندما تسمع دندنات ديما أورشو، تسمع ما لايقال عادةً، وتبوح بما لا يُباح به عادةً. يناديك الفرات البعيد، وتسترجع تجاعيد وجوه الجدّات بذقونهن المدقوقة. وعندما يعلو صوتها بثبات، ترفعك موجة متوسطية، وتلقي بك في ازقة دمشق القديمة، لتضمخك رائحة الملح والخبز.
التقينا بديما في يوم برليني مشمس يشبه روحها قبل البدء بجولتها، وجرى الحديث التالي حول جولتها الأخيرة في ألمانيا؛
حدثينا عن حفلاتك في ألمانيا.
بدأنا جولتنا في مناطق مختلفة من ألمانيا لعرضٍ بعنوان “أم / Mutter”، عملت دانيا سيغال على الفكرة، وهي منتجة العرض والمخرجة الفنية له. فاختارت مجموعة من الأغاني الكلاسيكية القديمة شخصياتها هنَّ أمهات من خلفيات متعددة الأطياف، يتخللها وصلة إلى عالمنا الشرقي تضفي نفس الإحساس لكل أغنية. معظم الأغاني هي تهويدات نوم، واحدة من الكنيسة الشرقية “وا حبيبي” التي غنتها فيروز، وأخرى تهويدة قديمة من القرن السابع عشر بعنوان “نيني”، وتهويدة من تأليفي بعنوان “هدوة”، كلماتها تأتي من جدّة إحدى صديقاتي من مدينة دير الزور في سوريا.
المقطوعة الختامية بعنوان “عشتار: الأم الكبرى”. وتأتي لتلخص أشكال الأم والمرأة بآنٍ واحد. تتألف مقطوعة عشتار من ثلاث حركات،الحركة الأولى تحمل عنوان عشتار النبوءة، ومن خلالها أقدّم عشتار كإلهة قديمة وعظيمة، وتعكس الحركة الثانية عشتار الخصوبة وولادة الحياة، وكونها الذكر والأنثى في آن واحد. أما في الثالثة فتظهر عشتار المتعالية، التي تعود لتؤكد أنها هي من يشرّع ويسنّ القوانين ويمسك زمام الأمور.
ما هي مشاعرك عندما طرحت دانيا عليكِ تأليف مقطوعة خاصة لهذه العروض؟
حين طلبت مني دانيا تأليف المقطوعة، اخترت موضوع عشتار لاعتقادي أنه يمكن أن يلخص ويربط جميع خيوط العمل، وأعجبها ذلك كثيراً. لكن أول شعور انتابني حينها كان الخوف، أعتقد أنه نابع من حس المسؤولية العالي كونها تجربة جديدة أن اكتب الموسيقا لهذا النمط من آلات عصر الباروك، لا أعتقد أنه سيرتاح لي بال قبل سماع أول بروفة لأكتشف ما ارتكبته من ذنوب، وساعتها إما أن أكتئب أو أفرح.
ما أهمية هذا الطرح الشرقي للموسيقا، هل له علاقة بوضع اللاجئين السوريين في ألمانيا؟
نتشارك أنا ودانيا فكرة إبراز ما قدمته الحضارة التي ينتمي إليها هؤلاء القادمون الجدد، وما يمكنها إضافته للحضارة اللأوروبية. وخصوصاً أن موسيقانا الشرقية متواصلة كثيراً مع الموسيقا الأوروبية القديمة.
للتهويدات أساس مشترك بين البشر باختلاف أعراقهم وأصولهم، فهل ساهم ذلك في تعزيز فكرة العمل؟
بالتأكيد، لكننا سنتعمق أكثر بهذه الفكرة في مشروعي التالي في كانون الأول/ديسيمبر القادم، وهو بالكامل بعنوان “هدوة”، وفيه تهويدات سورية قديمة، بالإضافة إلى تهويدات من أزربيجان وبولندا.
إن دققنا في التهويدات القديمة لدى أغلب الشعوب، سنكتشف أنها غالباً ما تكون سوداوية، تجسّد كلماتها حالةً من النواح والبوح بالألم، وكأن الأم تغنيها لا لهدهدة الطفل فقط، بل للفضفضة وإزاحة حملٍ ثقيل عن قلبها أيضاً.
وفي حديثنا مع المنتجة والمخرجة الفنية دانيا سيغال:
من أين أتت فكرة التهويدات، ولماذا هي دون غيرها؟
أي تناول لموضوع الأم هو موضوع عاطفي غني بطبيعة الحال، والتهويدات غالباً ما تمس إحساس الناس، وكما قالت ديما، غالباً ما تتجاوز الكلمات لتحمل قصة حياة أولئك الأمهات كاملةً. وقد اخترت بدء العرض بتهويدة ألمانية قديمة يعرفها أغلب الألمان، عندما نمعن في كلماتها، نكتشف أن الأم تبوح بحزنها جراء الفقد، فالأب قد مات وهي تغنّي موته.
الأم هي الأم، سواء كانت السيدة مريم أم السيد المسيح، أم الامبراطورة الرومانية آغريبينا أم نيرون، والتي كانت امرأة فظيعة، حاولت قتل إبنها، كما حاول قتلها هو أيضاً.
تُعتبر ديما أورشو واحدةً من أهم مغنيات السوبرانو العربيات، وهي موسيقية متنوعة الإنتاج، تحمل الماجستير في الغناء الأوبرالي من كونسرفاتوار بوسطن، والباكالوريوس في علوم الغناء و العزف على الكلارينيت من المعهد العالي للموسيقى بدمشق. تعددت أعمالها بين الكلاسيك والجاز والموسيقى العربية إلى الموسيقى التجريبية و المعاصرة و موسيقى العالم.
ظهرت أورشو على مسارح عريقة عديدة في الشرق الأوسط و أوروبا و أمريكا، مع العديد من الأسماء الهامة في عالم الموسيقى. قدمت أعمالاً للمسرح و الراديو و التلفزيون و لها تجارب مؤثرة في التأليف الموسيقي.
قامت أيضاً بتسجيل اسطوانة بعنوان awakening beyond إلى جانب خمسة مغنيات عالميات على رأسهن مغنية البوب الاميركية تينا تيرنر، ليتم إصداره في أوكتوبر 2017، كما شاركت في ألبوم Sing me home مع يويوما و فرقة طريق الحرير، الذي حاز جائزة غرامي كأفضل ألبوم موسيقى من العالم لعام 2017.
مواضيع ذات صلة: