غيثاء الشعّار*
بعين الغبطة، وربما الحسد، أنظر كسورية إلى نتائج الثورة التونسية، وإلى القوانين التي يتم اقتراحها وسنّها بين الحين والآخر، حيث تستمر تونس بإقرار القوانين والتشريعات الأولى من نوعها في العالم العربي، في الوقت الذي لا يتوقف فيه أنين الثورة السورية!
أخضعت الحكومة التونسية مؤخراً مؤذني الجوامع إلى دورات موسيقية بإشراف أساتذة مختصّين، وقضت محكمة تونسية لامرأة عزباء بالموافقة على تبني طفلة تعاني من إعاقة، رغم عدم توفر أحد شروط التبني وهو الزواج. وفي آب من العام الماضي فاجأت تونس العالم العربي والإسلامي بسنّ قوانين المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، وأجازت زواج المسلمات من ديانات أخرى، بالإضافة إلى سنّ تدابير لوقاية المرأة من العنف، بتجريم العنف اللفظي والجسدي ضدها، كما تجريم استضعافها في حال القصور الذهني أو صغر السن، أو الحمل أو المرض، وأعطتها الحق بمنح جنسيتها لأبنائها وتسجيلهم على لقبها في حال رغبت بذلك.
تم الترخيص للمحطة الإذاعية (شمس راد) وهي الأولى، إن لم تكن الوحيدة، في العالم العربي التي تتحدث باسم مثليي ومزدوجي ومتحولي الجنس، وأقيم في كانون الثاني الماضي مهرجان للأفلام المثلية الجنسية في العاصمة التونسية.
لكن خطوات التطوير هذه تصطدم براديكالية المتشددين والإسلاميين الذين يحاولون الوقوف في وجه أي مشروع وإجهاضه بشتى الوسائل بحجة مخالفته للشرع الإسلامي أو للعادات والتقاليد.
ما يحدث في تونس منذ ثورة 2011 هو استكمال، وربما استئناف، لما بدأ بعد استقلالها العام 1956، وما تبعه من محاولة لبناء دولة عصرية خلال حكم بورقيبة المتأثر بالثقافة الغربية، من خلال محاولات للقضاء على الجهل والفقر وتحرير المرأة، فأقرّ في عهده ثلث ميزانية الدولة لبناء المدارس، حتى في الجبال والقرى النائية، وإلزامية التعليم للجميع ذكوراً وإناثاً. وعمل على توسيع الطبقة المتوسطة، وألغى قانون تعدد الزوجات، كما ألغى الأوقاف وتحدث بحقّ تأويل القرآن.
حاول بورقيبة تقريب تونس من العالم الغربي، وساهم في نقل وتقبّل الشعب التونسي للأفكار التحررية. ورغم القمع والديكتاتورية نشأت الكثير من الحركات الاجتماعية والسياسية التي كانت فاعلة لاحقاً في ثورة 2011 التي فجّرها البوعزيزي. ربما كان لابتعاد تونس عن مصالح إيران وروسيا والصراعات في الشرق الأوسط، كالصراع العربي الإسرائيلي والصراع (السني الشيعي)، دور في نجاح هذه الثورة نظراً لانتماء 95 % من التونسيين إلى طائفة واحدة! لكن كنقيض لهذا تجاوز عداد الشباب التونسي في صفوف داعش الستة آلاف مقاتل كإحصائية أولية، منهم من كان يعيش في المناطق المهمّشة البعيدة عن التعليم والتي تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة، أو من ينتمي إلى تيارات متشدّدة تحرّض على القتال، وبعضهم عاطل عن العمل تم إغراءه بالمال، وبعضهم عاد إلى تونس من الجهاد مع طالبان بعد العفو الذي صدر العام 2011، ولكن أيضاً هناك فئة حاصلة على تعليم عالي ومن بيئات معتدلة، ومنهم بالطبع من كان في سجون بن علي وخرج جاهزاً للانتساب إلى التيارات التكفيرية.
كان بن علي قد افتتح حكمه بعدة إصلاحات، وأفرج عن عديد المعتقلين، بينهم قيادات إسلامية، وأنشأ وزارة للشؤون الدينية وحاول الظهور كمنقذ وراعٍ للقيم الإسلامية، لكنه ما لبث أن اعتقل الكثير من معارضيه ومنهم ناشطين إسلاميين، وقتل الكثير تحت التعذيب ولاحق عائلاتهم، واستحوذ مع عائلة زوجته على الاقتصاد، وأقصى الشباب عن الحياة السياسية، فكان لهذا دور في انضمام بعضهم إلى داعش.
غالبية هؤلاء تمت أدلجتهم في المساجد والجمعيات أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتم تحضيرهم لوجستياً في تونس أو ليبيا وإعطاؤهم المال ثم نقلهم للقتال عبر الحدود الليبية المستباحة، أو نقلهم مباشرة من تونس إلى مطار صبيحة في تركيا برعاية جمعيات نشأت بسرعة ومُوّلت من قطر وتركيا وغيرها.
الجدير بالذكر أن تونس هي الدولة الوحيدة التي تمّ تحريض الشباب فيها للانضمام إلى داعش عبر دعوات علنية، كما فعل وزير الشؤون الدينية السابق “نور الدين الخادمي” حيث قال في جامع الفتح: (لو كنت شاباً لذهبت إلى الجهاد).
تحاول تونس حالياً القضاء على التطرف الديني بقطع الطريق على من يخطط للسفر والانضمام إلى تنظيم الدولة. فأُنشأت جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج لمساعدة المقاتلين الراغبين بالانشقاق، وأُغلقت مساجد تنشر الفكر الإرهابي، وتمت إقالة الأئمة المتشدّدين، وأُنشِئت خلية لكشف الشبكات الإرهابية التي تنظّم وتحرّض الشباب، كما أُطلقت حملة توعوية بداية 2016 تحت اسم (غدوة خير) لحثّ الشباب على نبذ الفكر المتطرف، وأقيمت بوابة إلكترونية لنشر القيم الإسلامية الصحيحة.
بدأت الحركة الإسلامية بالنمو في تونس أواخر ستينيات القرن الماضي، في المساجد وجمعيات المحافظة على القرآن، وكانت معادية للحداثة لأنها اعتبرت علمنة تونس عملية فوقية وعنيفة، حسب قول الغنوشي، وفيما بعد أطلقت على نفسها اسم (حركة النهضة)، رفض بن علي الترخيص لها، واعتبرها حركة غير شرعية تسعى إلى قلب نظام الحكم، لكنها وصلت إلى الحكم بعد فوزها بانتخابات 2011 واستقالت بداية 2014 بسبب أزمة سياسية بعد اغتيال معارضين كشكري بلعيد.
هل ستنجح تونس في القضاء على الفكر المتشدد؟ وهل ستواصل التقدم في الطريق الحضاري الذي تحاول السير فيه؟ أم أن تبعات الديكتاتورية والتشدّد ستستمر في شدها إلى الوراء؟
* موسيقية وتربوية سورية مقيمة في ألمانيا
اقرأ/ي أيضاً: