حاورته: أماني الصيفي. طالبة دكتوراة في اللغة الانجليزية وآدابها -جامعة برلين الحرة-
– بتنظيم من مؤسسة “ابن رشد للفكر الحر” في برلين قمتَ مؤخراً بإلقاء محاضرة بعنوان: “ظاهرة كره الذات في أوساط المهاجرين الجدد”، فهل ترى أن ظاهرة “كره الذات” وازدراء الثقافة العربية والإسلامية بقيمها وتقاليدها في أوساط المهاجرين ظاهرة قديمة صاحبت تعرّف العرب أو المسلمين على الثقافة الغربية بقيمها الحديثة المختلفة عن ثقافتهم؟ أم أننا نشهد ظاهرة جديدة تماماً؟
– لا أعتقد أن “ظاهرة كره الذات” كانت موجودة في الأزمان السابقة إنما هي ظاهرة حديثة. نعم، كان هناك تساؤل ونقد ذاتي ومحاولة للبحث عن أسباب أمراض العرب والمسلمين، لكن لم يكن هناك “ظاهرة كره الذات”. نشأت الظاهرة في السنوات الأخيرة، مرتبطةً بصعود اليمين المتطرف في الدول الغربية، وبعض أبناء الهجرة ممن حاولوا أن يكونوا على يمين اليمين المتطرف، بل وأن يزيدوا في عملية النقد “المجاني” الذي يصل حدّ الشتيمة بحق الثقافة التي أتوا منها أو الدين الذي اعتنقوه بالولادة. وهنا أقول إن هناك تراجعاً في الثقافة العربية من مرحلة النقد الذاتي المعمّق والتفكير البحثي الذي قام به أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني، إلى مرحلة نقرأ فيها مقالات شتائمية للثقافة العربية الإسلامية، لمجرد البحث عن الظهور أو المنصب أو عن وظيفة في الحد الأدنى!
لا توجد كتل متجانسة اسمها “شرق” و”غرب”:
– عملت مؤخراً مع مجموعة باحثين على دراسة بعنوان: “الاعتراف والإنكار السياسي للأقليات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، ترون فيها أن السلطات وغيرها يسعون لتأجيج التفرقة والانقسام بين الطوائف والأقليات، فهل ترى هنا أيضاً سياسات مشابهة في التعامل مع الأقليات العربية والمسلمة؟ أو أن الإعلام الغربي يركّز على صورة نمطية سلبية للعربي/ المسلم تؤدي لنفور المهاجرين الجدد من بعضهم؟
– هذا السؤال يحمل جوانب عدة، فعندما أبحث في مسألة الأقليات والطائفية أبحث أساساً عن دور السلطات “الوطنية” في تأجيج النعرات الطائفية والانقسامات بين مكونات الشعب، تطبيقاً للقاعدة الاستعمارية “فرق تسد”، ولا أحمِّل الغرب عموماً إلا مسؤولية بسيطة، وإن حصل تدخل من الغرب فهو يستند إلى أرضية تهيئها الأنظمة المستبدة. السلطة المستبدة تأخذ الأقليات كرهائن، تستخدمهم وتوظف خوفهم في العملية السياسية الساعية للهيمنة على المجتمع ومقدراته. من جانب آخر، شهدنا في الفترة الأخيرة أعمالاً وحشية قامت بها داعش ومثيلاتها من المنظمات الإرهابية. والقول بأن ليس في داعش من الإسلام شيء، هو كما القول بأن ليس في الصليبية من المسيحية شيء، وكلا القولين خطأ. فداعش فيها من الإسلام ما في الصليبية من المسيحية. لذلك يجب أن نكون واعين لمواجهة الأمر بعقلانية بعيداً عن صد التهم بتهم مقابلة. هؤلاء المجرمون يستخدمون نصوصاً دينية لتبرير أعمالهم الوحشية، لذا وجب علينا إعادة قراءة هذا النص وتحليله والاجتهاد بتفسيره استناداً إلى السياق التاريخي، ليكون نفي المسؤولية عن المسلمين مستنداً إلى قواعد متينة، فلا نكتفي بالقول: إن لا علاقة للمسلمين بهم.
من جهة أخرى لا يمكن أن نتحدث عن وجود “شرق” “وغرب” ككتل متجانسة، يوجد إعلام موضوعي وآخر شعبوي في كل دول العالم. استغلال الفرصة من قبل اليمين المتطرف والصحافة الصفراء لبعض التصرفات الشاذة من قبل متطرفي الأديان، مهما يكن هذا الدين، هو موضوع تسويقي وبرنامج سياسي أكثر من كونه موضوعاً أيديولوجياً. لذلك لا أعتقد بوجود سياسة غربية أو ثقافة غربية عامة تودّ إظهار المسلمين كخطر يهدّد حياة الغرب وقيمه. لكني أؤكد أن التركيز على الصور الشاذة والسلبيات هو دور الإعلام، فمن خلال اطلاعي على الإعلام الفرنسي والألماني على الأقل، أستطيع القول بأن هناك تركيزاً، بل وأحياناً مبالغة، على من يحقق نجاحاً بين المهاجرين الجدد لتهدئة الرأي العام المتخوف والمتأثر بالخطاب اليميني المتطرف.
الحل في جمعيات مدنية تنشر الفكر الحر الواعي
– إذاً ما الذي يسبّب هذا النفور بين المهاجرين العرب والمسلمين، وخصوصاً الجدد، من بعضهم البعض في الدول الأوروبية؟
– المهاجرون الجدد قدموا ومعهم إرث ثقافي رسَّخه الاستبداد السياسي والديني في بلادهم الأصلية، فلم تكن هناك ثقافة التعاون خارج حدود المعتقد ولا حرية تعبير عن الرأي والتجمع. كما أن الشك كان قاعدة والخوف ثقافة، بالتالي يشك هؤلاء القادمون الجدد ببعضهم البعض وهذا طبيعي. ولا يجب أن ننسى جانباً آخر مهماً وهو أن الكثير من القادمين الجدد عايشوا أحداثاً مأساوية، وهذا قد يدفعهم أحياناً للرغبة في تأسيس حياة جديدة بعيدة عن كل من وما يربطهم بالماضي المأساوي.
هذا وإن كان من حقهم إلا أنه لا يخلو من بعض الأنانية، قد لا يأخذها الكثيرون في الحسبان وخصوصاً أننا لم نعرف ثقافة المسؤولية الاجتماعية وتقديم المعونة للآخر إلا في الإطار الديني المحصور. نعم، فنحن نقدم الزكاة والأضاحي كمسلمين لغيرنا من المسلمين، ولكننا لم نتبنَ ثقافة العمل المدني الذي يتجاوز الانتماءات.
لذلك على النخب منهم الانتظام في جمعيات مدنية لنشر الفكر الحر الواعي، ولمحاولة فتح قنوات للتواصل بين هؤلاء المهاجرين الجدد، ليس فقط لإدماجهم في الحياة الجديدة ولكن أيضاً لفتح نقاشات تؤهلهم للاختيار المبني على قناعة ووعي. وهنا أقصد اختيار احتفاظهم بثقافتهم الأصلية وإغنائها بالثقافة الجديدة، أو اختيار التخلي عن الثقافة الأصلية وتبني الثقافة الجديدة، أو اختيار التمسك بثقافتهم الأصلية ورفض الثقافة المضيفة. والخيار الأخير هو خيار صعب جداً فلا يمكن العيش في بيئة ما ورفض ثقافتها بشكل كامل!
التقوقع على انتماء معيّن يعيق التطوّر والاندماج
– هنا يأتي سؤال يسأله كل فرد من القادمين إلى بلاد جديدة وهو: كيف ننتمي؟ هل أصبح مفهوم “الانتماء” الآن يحمل بالضرورة “شحنات سلبية”؟
– الانتماء، كما الهوية، هو اختيار ذاتي. أنا لا أؤمن بانتماء جمعي. الانتماء الجمعي يصبح موضوعاً ايديولوجياً، موضوع تعبئة، وهذا مضاد لحرية الانسان. لكن القادمين الجدد كونهم لم يمارسوا ثقافتهم الأصلية بالأساس بشكل حر، فهم غير قادرين على تقبل الثقافة الجديدة، فيعتبرون أنها مضادة للثقافة التي قدموا منها والتي لا يعرفونها بالضرورة. التقوقع على انتماء معين أو هوية معينة غير مفيد أبداً في عملية الاندماج والاستمرار والتطور في الحياة الجديدة التي اختاروها أو أجبروا عليها. هناك مشاكل كثيرة تنجم عن محاولة الاستفادة من كل ما يقدمه المجتمع المضيف مع المحافظة على كل ما حملوه من المجتمع الأم والثقافة القديمة. وهنا يحدث التناقض والصدام وهو ما يجب السعي لتجاوزه قدر المستطاع.
سلام الكواكبي في سطور
“سلام الكواكبي” هو باحث سوري في العلوم السياسية ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، أستاذ مشارك في جامعة باريس الأولى/ السوربون في برنامج الماجستير حول التنمية والهجرة والأزمات. كان نائب مدير مبادرة الإصلاح العربي، ومدير البحوث فيها. يرأس منظمة “مبادرة من أجل سوريا جديدة”، وهو عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة منظمة “اليوم التالي من اجل سوريا ديمقراطية”، كما يرأس مجلس أمناء مؤسسة “اتجاهات، ثقافة مستقلة”، وزميل رفيع لمركز الدراسات السورية في جامعة سانت آندروز، وعضو مؤسس وعضو المجلس الاستشاري لمؤسسة مواطني ومواطنات المتوسط والتي مقرها فالنسيا/إسبانيا. وهو عضو اللجنة الاستشارية لمعهد جامعة الأمم المتحدة للعولمة والثقافة والتنقل في برشلونة/ اسبانيا. وعضو مجلس إدارة معهد الأبحاث والدراسات للعالم العربي والبحر المتوسط في باريس. كما أنه عضو في اللجنة العلمية للدورية المتخصص في شؤون منطقة البحر المتوسط CONFLUENCES والصادرة في باريس.
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: