علياء أحمد | كاتبة وباحثة سورية.
“حقوق النساء حقيقة هنا في ألمانيا، وليست مجرد شعارات مثلما هو الوضع في بلادنا”. قالت ذلك بثقة وسط مجموعة نساء سوريات، جمعتنا الصدفة في القطار، بعدما علمت أنني أعمل في مجال حقوق النساء والأطفال.”
أتفق مع الصبية صاحبة الفكرة وأؤيد كلامها، وبحشرية الباحثة الاجتماعية أسألها ما الذي لمسته من حقوق النساء وأثّر عليها إيجابًا في حياتها هنا في ألمانيا، فتصدمني إجابتها: “لاشيء، على العكس، في سوريا كنت أعمل كوافيرة في صالون يعمل فيه رجال، لكن هنا في ألمانيا لا يسمح لي زوجي بالعمل مع رجال ألمان من غير ديننا وعاداتنا”. تتبنى إحدى النساء الفكرة قائلة: “معه حق، نحن هنا في بلد غريب بعاداته وثقافته ومن الطبيعي أن يخاف رجالنا علينا، خاصة أن هناك كثيرات خنّ الثقة التي منحها رجالهن لهن عندما سمحوا لهن بالخروج للعمل أو الدراسة“.
يدور النقاش بين تأييد ورفض ضمن عينة صغيرة لنساء يدركن أنهن انتقلن إلى بلد مختلف يضمن لهن حقوقًا أكثر بكثير مما كن يتمتعن به في بلدهن الأصلي، ولكن بعضهن مستعدات للتنازل حتى عن حقوقهن السابقة، استجابة لرغبة رجالهن، وخوفًا من إطلاق الأحكام السلبية ضدهن من قبل مجتمع انتقل معهن بعاداته وثقافته.
الخوف من وصمة العار هاجس موروث في المجتمع السوري، والسمعة الحسنة تحددها ألسن الناس بل وصفحاتهم الفيسبوكية أيضًا، فكثيرًا ما ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بقصص نساء خرجن عن المألوف وكسرن تقليدًا ما، لينال القاصي والداني من هؤلاء النسوة، ويطعن بسمعتهنّ وشرفهنّ بأقذع الألفاظ، سواء كانت “القصة” حقيقية أو ملفقة أو فيها مبالغة، كأنّ الغرض هو إثارة الرأي العام ضد أي امرأة تسعى لأخذ مصيرها بيدها وتحقيق استقلاليتها وممارسة حقوقها.
مثلاً، قد تطلب امرأة الطلاق لأن زوجها يضربها، فيصل الأمر ببعض المعلّقين والمعلّقات حدّ اتهامها بـ”الخيانة” أو أنها تحب رجلاً آخر وتريد السير وراء أهوائها وترك أطفالها المساكين وعائلتها! ويحدث أن تشتكي إحداهن وتطلب المساعدة نتيجة سلوك زوجها المسيء وانعدام مسؤوليته وإدمانه لعب القمار أو ارتياد بيوت الدعارة، لتأتيها النصائح بالدعاء له والصلاة والصبر الذي سيأتي من بعده الفرج، والتحذير من الطلاق وعواقبه الوخيمة عليها وعلى عائلتها!
كل هذا جزء من معركة يجهد فيها رافضو التغيير، نساءً ورجالاً، للحفاظ على النمط التقليدي الذكوري كما هو سائد في المجتمع “الأم”. النمط الذي يعني استمرار التبعية لولي الأمر “أب، زوج أو أخ”، بغض النظر إذا كان ولي الأمر هذا محقًا، كفؤًا أم لا، حيث يبقى “رضاه والبقاء تحت جناحه وحمايته” احتياجًا يخلقه ويضخمه “مجتمع اللجوء”، ويصبح الانتقال إلى بلد يحفظ للنساء حقوقهن قانونيًا ويحميهن من الاستلاب الاقتصادي والعنف الأسري وغيره من معيقات الاستقلالية؛ أمرًا لا قيمة له ولا معنى، بل على العكس يتم التضييق أكثر على بعضهن بحجة اختلاف الدين والعادات والتقاليد، والترهيب من التماهي مع المجتمع المضيف الذي لا يحمل ذات القيم تجاه المرأة واستقلاليتها وحرية جسدها خصوصًا.
ما يزيد الواقع سوءًا دفاع فئة من النساء عن منطق التبعية للرجل بثقة عمياء، تحت ذرائع دينية، اجتماعية أو سواها، فضلاً عن نظرتهن إلى المرأة، وإلى أنفسهن بالتالي، من زاوية القصور وعدم الثقة، كقول تلك السيدة: “من حق رجالنا أن يخافوا علينا.. نساء خانت الحرية التي أعطوها إياها..الخ“، وكأن لسان حالهن يقول: “نحن لا نخاف على ذواتنا، وسنرمي بأنفسنا للتهلكة إن لم يكن هناك من يمنعنا ويحمينا”، أو “إننا عاجزات ولا نعرف كيف نتصرف”.
لعل النموذج الأسوأ هو التي تتباهى بأنها لا تريد فعلاً أن تتولى زمام أمرها، وأنها تفضل البقاء تحت سيطرة من يؤمن لها احتياجاتها ويرعاها دون أن تضطر لبذل جهد ما في التعلم أو العمل، فهي تريد أن تكون “ملكة في سجنها بكل حريتها” وفق تعبيرها. ومن المثير للشفقة، أن تفاخر إحداهن بأن أهلها “أعطوها الحرية” وكأنها مِنّة منهم وكرم أخلاق، وليست حقًا طبيعيًا لها ومن البديهي أن تتمتع به. جميع هذه النماذج تؤكد عن لاوعي منهنَّ أنهنَّ لا يجدنَ الكفاءة بذاتهنَّ ليكنَّ شريكات حقيقياتٍ ممتلكاتٍ لقرارهنّ ومستقلاتٍ به.
التبعية للرجل والخوف من الاستقلالية، ارتفاع نسب الزواج المبكر، السكوت عن العنف الأسري، والتخلي عن أحلام الدراسة والعمل، كلها مشكلات كثيرًا ما يسببها جهل النساء بالقانون الجديد الذي يمكنهنّ التمتع بحمايته، وخوفهنّ من الفشل في الوصول لأي جهة تحميهنّ. كما أن حاجز اللغة يزيد من صعوبة التواصل مع المختصين لطلب المساعدة وعرض المشكلة، إضافة إلى قلة معرفة كثير من العاملين في المنظمات المعنية بالعادات والتقاليد، والعقلية الذكورية المسببة للمشكلات، وهو ما يجعل الحلول المقدمة للنساء غير واقعية ولا مجدية في حالات كثيرة.
على الرغم من وجود نماذج متميزة لنساء لاجئات ومهاجرات أثبتن ذواتهنّ وفرضن باحترام وثقة عاداتهنّ وتقاليدهنّ (ارتداء الحجاب، عدم المصافحة باليد مع الرجال..الخ) في أماكن العمل وسواها، ليكنّ مستقلات ويحققن نجاحاتهن الخاصة، إلا أنّ تجاربهنّ تهمّش ويقلل من شأنها، مقابل جهود من يسعون إلى تكريس صورة نمطية تسم المرأة الحرة التي ترفض الانصياع والتبعية بالانحلال الأخلاقي والفشل، وترويج قصص نساء تعرضن للاستغلال والإساءة كي يصبحن عبرة تخافها بقية النساء الطامحات لتغيير واقعهن الصعب.