أجرى الحوار: أحمد ياسين*
الفنان السوري بركات عرجة من مواليد مدينة حماة النواعير، خريج أهلية التعليم شعبة فنية عام 1968، وكان عضواً في اتحاد الفنانين التشكيلين السوريين منذ عام 1982، أقام 15 معرضاً فردياً بين سوريا وألمانيا، وكان معلماً للمهنة التي أحبها في مدارس سوريا ومعهد الفنون التشكيلية في حماة.
أبواب: حدثنا ما هو الفن وعن بداياتك معه؟
الفنان السوري بركات عرجة: لا نستطيع تعريف الفن بجملة، ولا الدلالة عليه بصيغة جاهزة، يمكن القول أن الفن ينتج عن فعل (نشاط إنساني) في مجال ما لإيجاد الجمال، ومفهوم الجمال متحرك ويخضع للقيم الحياتية ضمن التشكيل الاجتماعي، لهذا اختلفت أساليب البحث وتنوعت التجليات (الأعمال الفنية) حسب الحاجة والضرورة والوظيفة التي منحها المجتمع لذلك الفنان.
هناك خط وهمي دقيق جداً بين الصانع الماهر والفنان، وهناك مئات الأطنان من المنحوتات والتماثيل واللوحات المشغولة بإتقان ونظافة، لكن قليل منها يحتوي الفن. كما أن هناك آلاف العازفين للموسيقى لكن العظماء معدودون كموتسارت أو تشايكوفسكي أو باخ أو بيتهوفن. كثيرون هم من ينظمون الشعر ويكتبون القصص والروايات لكن هناك شعراء وأدباء لن يتكرروا كتولستوي، وماركيز ونيرودا والسياب والمتنبي والمعري، لأن الفن موقف أخلاقي مرتبط بالجمال والحق والخير تجاه العالم (الطبيعة والناس).
في لوحاتك صور ورسوم لقرى ومدن قديمة، ماذا تعني لك؟ وهل هي حقبة زمنية أو مرحلة مؤثرة في سيرتك الفنية؟
ليست الأماكن تراباً وأحجاراً وطرقاً وأشجاراً وبيوتاً صماء، بل إنها صيغة للحياة الاجتماعية والروحية التي يعيشها الإنسان بكل فرحه وسعادته وانكساراته وخيباته ونجاحه، وحتى بكل عقده النفسية. هذه القرى والمدن هي الأساس الهندسي النفسي للذاكرة الفاعلة في ردود أفعالك وأفعالي تجاه المحيط (البيئة)، سواء كانت بقايا موقد في الصحراء أو أثر دابة يثير شجون شاعر لتوليد القصيدة (قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزلي..)، كما أن هذه الأماكن هي العائلة والحبيبة والرفقة والجيران، إنها قصص تحكيها الجدة بلون ورائحة ومعنى، إنها الأعياد والأعراس، إنها الحروب والدمار والتشرد، إنها اللوحة الحاضرة دائماً جزئياً أو كلياً.
هل الفن حرفة بالنسبة لك؟ أم هواية لأوقات الفراغ ؟
كل ما في الأمر أني عندما كنت صغيراً، كنت أرى تجليات الفن في الطين والرخام وأحجار الكلس وعرق الرجال المتعبين وأجساد النساء، وفي قصب الزل على ضفاف النهر وأشجار الفاكهة في البساتين، وفي عدة الحراثة وعدة الحدادين والنحاتين.
حاولت تعلم التبليط والنجارة، وتصليح السيارات، والدهان وتركيب الجبصين ونحت الحجارة. وفي كل من هذه الحرف كنت أبحث عن شيء مرتبط بالجمال.
نعم إن ضيق الحال وعزة النفس والشعور بالعجز جعل مني معلماً، كان الرسم تجربة، حالة ولدّت عندي كثيراً من الأعداء وقليلاً جداً من الأصدقاء غير الدائمين، لذلك لم أستطع امتهان الفن.
ماذا تقول عن بركات عرجة مدرّس الرسم؟
لم يكن همي في تدريس الفن في المدارس الإعدادية والثانوية ومعهد إعداد المدرسين تلقين الطلاب أصول رسم الأشياء ومحاكاة الواقع فقط، بل كنت أدفعهم للتعبير عن أنفسهم وكنت أدلهم على مصادر الجمال في الطبيعة والفن. كما كنت حريصاً على أن يعتزوا بأنفسهم وإنتاجهم، ولذلك كنت أظهر لهم تقديري لأعمالهم مهما كانت متواضعة، وأقوي فيهم حس النقد ورؤية الخلل وتقدير الخلق والإبداع والبحث. كان همي أن لا يبتعدوا عن حسهم الإنساني وأن يحترموا البيئة.
وهذا ما جلب لي عداوة المدراء وعناصر الأمن التربوي وعجل بتقديم استقالتي من التدريس 1994. لم يختلف الوضع كثيراً عندما درست مادة الرسم عن الطبيعة في مركز الفنون التشكيلية، لأن إدارة المركز وجدت في حرية التعبير خروجاً عن أصول تدريس المادة.
هل تأثرت بفنان ما؟ هل تتبع نمطاً فنياً أو مدرسة؟
نعم أحببت أوغان، وغويا، وماتيس، وجيو ماكيتي، وفان كوخ، وبول كلي. واندهشت بهنري مور ورودان ومايكل أنجلو. ولكن بمنتهى الصدق وجدت نفسي أسيراً برسوم الكهوف ورسوم سكان أستراليا الأصليين. أنا أساساً لا أؤمن بالمدارس الفنية وفلسفتها، ما أعرفه أن هناك فنانون أساتذة عظام تركوا لنا وجهة نظر جمالية وفكرية وموقفاً متقدماً على عصرهم، يمكن أن نقرأ تجربتهم ونتعلم منها.
الحرية أساس الفن، تقليد الآخرين في مرحلة التعليم أمرٌ وارد، فلا شيء يأتي من الفراغ، وكما يبدو أني تعلمت وما زلت أتعلم من الكل حتى من الذين كنت أعلمهم.
حدثنا عن تأثر الفنان بالبيئة
إذا كنت تقصد الطبيعة ومكوناتها من سهول وجبال وصحاري ووديان وبيوت وأناس وحيوانات، فإن الفنان مطالب أن يدرب عينه وروحه على رؤية الأشياء؛ من حبة الرمل التي نستطيع رؤيتها إلى الشمس والقمر والنجوم مروراً بالشلالات والبحر، وحبة الفليفلة والتفاح والعنب، والأوردة والشرايين بيدي جدتك، ونقاط العرق على جبين أبيك بعد يوم عمل مضني. كما يجب على الفنان أن يلاحظ لون ريش ورقص ذكر الطيور، ووقع حبات المطر على أسطحة البيوت وعلى الطرقات والأشجار.
في الطبيعة الحرة طاقة من الحب والفرح والغضب والانتقام، في الطبيعة توازن وتكامل وتنوع وانعتاق وتطور ووحدة، تناغم وحركة وسكون واستمرارية وتجدد وتخّلق وانبعاث، ضوء وظل وقساوة وطراوة، هذا ما يجب أن يتضمنه العمل الفني. عليك أن تتعلم من الطبيعة كل ذلك، إنها المعلم الأول، تسكن بروحك فيها، ثم تذهب إلى عقلك. أما عن حياتي في ألمانيا فإنها لم تغير ملامحي ولكنها جلبت لي الطمأنينة والأمان الاجتماعي والصحي والمعيشي.
* أحمد ياسين. صحفي سوري
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً:
الفنان السوري أحمد كرنو: ألوانٌ من بلدي التي لم تجف جراحها بعد
الفنان كيفان الكرجوسلي.. الرسم يجري في دماء العائلة وهو المستقبل
الفنان علي عمام.. محظوظٌ لأنني دخلت عالم الفن