رند صبّاغ – برلين
استطاعت الحرب الدائرة في سوريا توثيق الكثير من مشاهدها من خلال عدسات السوريين، حتى ساد اعتقاد بين عددٍ من الدارسين بأنها واحدة من أكثر النزاعات التي تمت تغطيتها بصريًا، ما فتح الباب بدوره للعديد من صنّاع الأفلام للخوض في تجارب سينمائية مختلفة، وإن تفاوتت في سماتها وأشكالها ورسائلها، إلا أنها أمعنت في إظهار بشاعة الحرب وفظاعة المشهد.
وفي الوقت الذي ذهب فيه الكثيرون لتقديم أفلام وثائقية غلب عليها الطابع التقريري من جهة، أو التقيد بحدث، أو زمان أو مكان محددين من جهةٍ أخرى، اتجهت مخرجة فيلم “استعراض الحرب” عبيدة زيتون، نحو تقديم سردية رصدت من خلالها سياق تطور الأحداث في سوريا منذ انطلاقة الثورة في آذار 2011، وحتى توقفها عن التصوير عام 2013 في عددٍ من الأماكن المختلفة من سوريا.
يتابع الفيلم من خلال مجموعة من أصدقاء مخرجة العمل -التي كانت إحدى شخصياته بدورها- التحولات الجذرية في النزاع، بما في ذلك التبدلات النفسية والعاطفية للأبطال، ما أضفى طابعًا مؤنسنًا للمشاهد القاسية والأحداث بتسليط الضوء على أناسٍ عاديين اختاروا الثورة والتفاعل مع الحدث، والذين عادةً ما يتم تهميشهم أو تناسيهم أثناء تقديم القصة السورية، وإن فضلت زيتون تقسيم الفيلم بشكلٍ واضح لمراحل زمنية تؤطر كل فصلٍ بعنوانٍ ينقلنا بشكلٍ موجه بين الواحدة والأخرى، مثل (الاضطهاد، المقاومة، التطرف. إلخ)، إلا أنها حافظت على الطابع الانسيابي للفيلم.
تنطلق زيتون من اللحظات الأولى، حيث كان السوريون في نشوة الثورة والتظاهر للمطالبة بإسقاط النظام السوري، وهو ما بدا جليًا في تصرفات الشخصيات التي تتحرر من عوالمها السابقة، ومن مخاوفها، وقيودها المختلفة، وتفتح لنفسها أبوابًا جديدة من الحرية، فعلى سبيل المثال نتعرف خلال الفيلم على شخصيتين نسائيتين من خلفية محافظة دينيًا، والتغيرات التي مرّتا بها بعد خوضهما تجربة الثورة، والتي انعكست على حياتهما الشخصية، بدءًا من خلعهما للحجاب، وصولاً إلى كسرهما للعديد من التابوهات الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية، دون أن تتوغل مخرجة العمل في هذه التفاصيل، والتي كانت جليةً بما يكفي دون توصيفها.
يمعن الفيلم بشكل أكبر في استعادته للذاكرة، لكن هذه المرة في صورٍ أكثر قربًا مما اعتاد المشاهد على رؤيته بين عامي 2011 و2012، وبالأخص في فترة سيطرة النظام شبه المطبقة على طول البلاد، فالعدسة تلاصق الحدث، وتتواجد بشكلٍ مدهش في أكثر الأماكن خطورة.
تتطور الأحداث، وتتشابك علاقات الأبطال، إلا أن المصير البائس لم يكن يلاحق البلاد فحسب، بل ساق الشخصيات التي كانت مفعمة بالطاقة والحيوية نحو أقدارٍ مؤلمة، لكن واحدةً من مكامن القوة الأساسية إلى جانب ما قدمه من مادةٍ فنيةٍ، كانت من خلال شفافية العرض، والجرعة الواقعية في الطرح، فلم يحاول الفيلم تجميل الوقائع أو الشخصيات في كل تقلباتها، بل تركها في مزاجها الإنساني لتتبدل بين ذروةٍ وانحدار بين لحظةٍ وأخرى.
تم عرض استعراض الحرب أو The war show مؤخرًا في العاصمة الألمانية برلين خلال أيام مهرجان الفيلم العربي في دورته الثامنة، وهو من إخراج عبيدة زيتون، وساعد في الإخراج أندرياس دالسغارد، بإنتاج سوري دنماركي ألماني مشترك، وكان الفيلم قد حصل في عرضه الأول ضمن مهرجان أيام فينيسيا السينمائية على جائزة المهرجان، بالإضافة إلى ثلاث جوائز أخرى وهي جائزة حقوق الإنسان في مهرجان برغان الدولي، وجائزة مهرجان غوديبرغ، بالإضافة إلى جائزة أفضل وثائقي في Bodil awards، كما تم ترشيحه لعدد من الجوائز الأخرى.