آدم الشامي. ناشط سوري مقيم في فرنسا
أنا في أحضانه، أقبله، يهمس في أذني “أنت حبيبي”. أسافر بعيدًا كما الحلم لأصحو من كثرة السعادة، وأتلمس سريري الخالي إلا من جسدي الوحيد وحزني الذي يكبر ويحول سريري إلى قبر لا ينقصه سوى هبوط سقف الغرفة عليه وإعلان موت شابٍ “ناقص”، شاب يحب من هم مثله من يملكون من الأعضاء ما يملك.
ولكن لا سقف يقع فوق جسدي المنهك ولا حياة ناقصة تنتهي، فأكمل يومي بحمل همي فوق روحي صارخًا كم أكرهك أيها “الشاذ”. كم ألف مرة خاطبت المرآة وبكيتُ حزن صاحبها، ثم أنهيت حديثي معها بنظرة حقد وغضب، نظرة مظلوم بعين ونظرة ظالم بالعين الاخرى. تتشاجر العينان تقتتلان لأمسي أعمى؛ العمى المريح الذي أحب، المسكّن لأوجاعي لأكمل ما تبقى من يومي دون ألمٍ أو سعادة دون أي شعور. لعلها عقوبتي عقوبة المثلية الجنسية.
أيامٌ تمضي، يذكرني بمرورها فقط جلستي الأسبوعية عند الأخصائية النفسية. كل يوم إثنين موعدي مع ما كنت عليه.. موعدي مع الماضي.
في الجلسة الأولى قالت بإنسانية تفوق ما لاقيته من أهلي: أنت هنا لتقول كل شيء لم تقله، ولتفكر بكل شي لم تفكر به أو حتى تخاف أن تفكر به. وبدأت أولى مقابلاتي مع أنا الصغير المنسي.
كنت في الخامسة عندما قالت جارتنا لأمي، كأن الله غير رأيه في آخر أسبوع، وأنجبتني صبيًا. تتدارك أمي الموضوع وتقول ولكنه رجل صغير، نظراتها أشعرتني ما يعنيه أن تكون طفلاً تحترق بخجل الاختلاف عن سمير وخالد وعبد.
كنت أراقبهم من نافذة غرفتي وهم يلعبون في الحارة. لأنهي مشاهدتي لهم بالذهاب لغسل قميصي الأبيض وانتظاره ليجف، مقلداً اختي التي تكبرني ب ١٥ سنة. كان يستهويني تقليدها، مما جعلني غريبًا عن ثلاثة أخوة ذكور، لاحظوا اختلافي وأغمضوا أعينهم، إلا أصغرهم وضع بينه وبيني حاجزاً سميكًا بسماكة حاجبيّ.
كنت أرى حاجبيّ سميكين جداً كأنهما خلقا لشخصٍ لا يشبهني وأسعى جاهدًا لترقيقهم. في السابعة عشر بالغت جدًا.. كنت هناك واقفًا أمام المرآة بدأت بنتف الشعر ومع كل شعرة كنت أنتف كثيرًا من أفكاري التي لم أكن أفهمها، شيءٌ في داخلي أعماني عن هول مبالغتي في ترقيق الحاجبين، ومع شرود التفكير انتزعت عدداً كبيراً من الشعيرات في طرف الحاجب. فجوة خلقت ألف محتقر وجلاد، ينهالون على أمي وأهلي، بأن ابنهم يرسم حواجبه. ولأحمي نفسي من سهامهم، غطيت الفجوة بلاصق للجروح ليصبح اسمي في المدرسة “أبو لزقة”.
اختبرت من جديد شعور الاحتراق من خجل الاختلاف، ولكنني فضلت لقب “أبو لزقة” على نزع هذه اللصاقة وفضح أمري بأنني أرسم حاجبيّ. إلى أن زارتنا خالتي وقالت لأمي ابنك يرسم حاجبيه، فاللصاقة على ما يبدو، اكتفت فقط بإعطائي اللقب المقيت أبو لزقة ولم تكن كافية لتخفي ما فعلته أو ما أجرمته بحق ذكورتي، فأخذتُ عار الصفتين، عار “أبو لزقة” في المدرسة وعار رسم الحاجبين عند بيت جدي. حتى انتبه عمي وهو أكثر شراسةً وعدوانيةً من الإله الذي خلقني ثم توعدني بالحرق والخلود في ناره.
انتظر عمي دخول فريسته إلى صالة عرس ابنه، ليقول لي “أنت ماذا تفعل في صالة الرجال؟”
دمعتي أنهت أول جلسة لي مع المعالجة التي قالت نكمل الاسبوع القادم، أنت هنا الآن في ألمانيا، عش كما تشاء. لكنني غادرت العيادة لأبحث عن طريقة أموت فيها كما أشاء، أو يموت غضبي الذي تغذى على روحي وتضخم ليطغى على أملي في الحياة، أنا ابن الخامسة والثلاثين، عشت جلها هناك في أرض لم يجد فيها أستاذ الديانة في الصف السابع ليبدأ به عامه الدراسي إلا الوعيد على لسان خالقه بأننا نحن المثليين يجب قتلنا، ويفضل أن نقتل بالرمي من شاهق، وما هو الشاهق يا أستاذ؟ الشاهق هو المكان المرتفع، وهل كان يوجد مكان مرتفع عند من يسكن الخيم؟ ليكون جوابه ربما جبل. ويمكن أن يبنى جدار عالي ويهدم على رأس اللوطي والملاط به، ولمإذا إذا لا يبنون بيوتا لهم بدل بناء جدار لقتل انسان مختلف ؟ هراء.. هذا كان جوابه. وتلك كانت عقوبة المثلية الجنسية.
ضحك الجميع وضحكت معهم، وما زلت أضحك مع كل دمعة أبكيها عندما أستيقظ من حلمٍ بشاب أبادله القبل، فقط القبل. وكيف أجرؤ حتى في أحلامي على ممارسة ما هو أكثر من قبلة أو ربما عناق. وأنا ابن تلك الأرض التي خلقت في داخلي ألف وحش وألف حاجز وألف سيف يخرق روحي بمجرد أن أسمح لها بأن تبحر في عشقها إلى ممارسة ما هو أكثر من قبلة. هناك في تلك الأرض إذا ما أرادوا أن يشنعوا في القاتل يصفونه باللوطي، وكأن عقوبة المثلية الجنسية أسوأ، وكأنما لا يكفيهم كلمة قاتل للتعبير عن بشاعة القتل، فهذا العمل يحتاج لصفة تزيد من التأكيد على رفضه وهل مثل كلمة لوطي تفي بالغرض وربما تزيد، وتزيد حتى تملأ الماضي والحاضر وبقايا المستقبل بكمٍّ من الكره والاشمئزاز مني ومن ميولي التي لم اخترها، ولم أرغب حتى بأن تجلب لي في الحلم ذاك الشاب البائس الذي ربما هو أيضًا غير راغبٍ ولا مختار.
اقرأ/ي أيضاً:
اضاءات علمية وإكلينيكية على الميول الجنسية المثلية والمزدوجة
مجتمع الميم: بين الاضطهاد والنضال الحقوقي المثمر
لا للعنف والتمييز والتنمر على أساس الميل الجنسي والهوية الجنسانية
قصص عن المثلية الجنسية في التراث العربي