تجارب يرويها لاجئون أثناء رحلتهم في البحث عن مأوى
سعاد عباس*
“نعم، ألمانيا ستصبح وطني” هكذا يجيب أيمن بثقة على السؤال الذي لا يتوقف عن الدوران في الرؤوس رغم الصمت عنه أحياناً، هل ستعود يوماً، أم أنك قد تتمكن من تحويل بلد اللجوء.. منفاك الآني إلى وطن؟
أيمن شاب سوري في الخامسة والعشرين من العمر، يحاول متابعة دراسته الجامعية بعد أن أنهى دراسة اللغة الألمانية، لكن هاجسه الآن هو مغادرة الكامب إلى مسكن يستقر فيه ويركز في بناء مستقبله.
يسعى اللاجئون إلى خلق مقاربٍ للوطن بالحدود الدنيا حتى يتمكنوا من استعادة توازنهم. ولعل نقطة البدء الأساسية هي مجرد بيت صغير يشبه قليلاً ما خلفوه وراءهمفي الوطن ، ولكنهم يجدون أنفسهم عاجزين غالباً عن خلق بدائل مريحة للاستقرار، فالتحديات بالنسبة للاجئ أكبر بكثير من الآمال سواء كان قد غادر سكن اللاجئين أم مازال فيه.
أولى التحديات اللغة وتفكك العائلة
ابراهيم زميلي في دروس اللغة الألمانية في أواخر الخمسينيات من العمر، لكنه يبدو أكبر بكثير، لديه ثلاثة أبناء أكبرهم في الثانية والعشرين، والصغير في الرابعة عشر. كان موظفاً في سوريا طوال ثلاثين عاماً، أمضى حياته في بناء بيته في إحدى ضواحي دمشق، وبعد أن رآه مدمراً رحل مع عائلته ليصل إلى ألمانيا قبل ثلاث سنوات، تنقل في الكامبات مع زوجته وأبنائه الثلاثة ولم يستطع طوال ذلك الوقت أن يجد منزلاً. زوجته هربت في الاتجاه المعاكس مؤخراً عائدةً إلى تركيا ثم سوريا، بعد أن انهارت إمكانياتها في الاحتمال والتأقلم مع حياة الكامب في برلين، ويئست من إمكانية إيجاد مكانٍ تدعوه بيتاً يتسع لعائلتها وذكرياتها وآلامها.
يعتقد ابراهيم أن محاولاته لإيجاد شقةٍ تتعثر بسبب ضعف لغته، ومرةً طلب من أحد الموظفين في شركة عقارات أن يشرح له بعض المعلومات عن تقديم الطلب بالإنكليزية ليفهم سبب تعرضه الدائم للرفض فرفض الموظف وأجابه “إن أردت أن تعيش في ألمانيا فعليك أن تجيد لغتنا”، وجه ابراهيم الشاحب أصلاً ازداد قتامةً وقال للموظف أنا أدرس اللغة ولكن ريثما أجيدها فأنني بحاجة إلى بيتٍ.
تأقلم ابراهيم مع سكن الكامب وتعامل معه كأنه منزل حقيقي، إلا أن الكامب كان له تأثير سيء على أبنائه، وعلى قدرته على التواصل معهم، فهم يفضلون إمضاء أطول وقتٍ ممكن بعيداً عن الكامب ومشاكله وروتينه، مما ترك اثراً سلبياً على تماسك العائلة لاسيما بعد رحيل الأم. يقول ابراهيم: “وطني الأخير هو عائلتي، إن فقدتها سأفقد كل شيء”.
الحجاب والعائلات الكبيرة
منال أرملة وأم لثلاثة بنات وصبيين تعيش في نفس الكامب الذي يسكنه ابراهيم في “Stallschreiberstr. 12” منذ 2016، ولا تكف عن الشكوى فهي تبحث منذ سنتين تقريباً عن شقةٍ تحمي خصوصيتها مع ما تبقى من كرامة، تقول إن بعض العاملين في الكامب بذلوا جهوداً كبيرة لمساعدتها في إيجاد سكن، لكنهم فشلوا حتى الآن، وهي تعتقد أنها السبب في ذلك، بسبب الحجاب مثلاً الذي ينفر بعض المؤجرين، وكذلك وجود خمسة أطفال صغار، لاسيما أن لدى بعض أصحاب البيوت تجارب سيئة مع العائلات الكبيرة، وهذا انعكس سلباً على فرصتها في إيجاد مسكن.
يملؤها الذنب تجاه أطفالها، وتقول إنها لو استطاعت أن تتكلم الألمانية لأقنعت هؤلاء الأشخاص بأنها ستحافظ على المنزل ونظافته وتتبع القواعد العامة للمبنى.. وأنها لا يجوز أن تحمل أخطاء غيرها، لم يخفف شعورها بالقهر أن الموظفة التي تساعدها أكدت لها أن من حق أي شخص أن يحصل على سكن كريم في هذه البلاد وأن المشكلة عامة ولا تتعلق بها شخصياً.
لا تشعر منال بالانتماء إلى المكان الذي تقيم فيه، لا تحيي أحداً في الطريق ولا أحد يبادلها الابتسام، لكنها تشعر بأن نساء الهايم هم عائلتها وسندها، ورغم وجود بعض المشاكل من حين لآخر بسبب الأطفال وانعدام الخصوصية إلا أن ما يجمعها بجاراتها من معاناة جعلهنّ أكثر صلابةً ودعماً لبعضهن البعض، وهنّ وطنها الوحيد الآن.
الجميع يريد العيش في برلين ولكن
قد تكون برلين هي المكان الأصعب لإيجاد شقة حتى للألمان أنفسهم، ويعتقد لاجئون كثر أن احتمالات إيجاد مسكن في الجزء الشرقي من المدينة أو حتى في الريف المجاور أفضل بكثير، لكن بعضهم يتخوف من هذه المناطق بسبب الإشاعات التي قد يكون بعضها صحيحاً حول كثرة اليمينيين في هذه المناطق وكراهيتهم للاجئين والأجانب عموماً.
لكن العكس حصل مع غالية ومهند، لديهما طفلة صغيرة في الصف الثاني الآن، وقد وجدا شقة صغيرة في مارتسان، ولم يتعرضا لأي موقف عنصري أو فيه كراهية. تقول غالية “لم يزعجنا أحد، وابنتي سعيدة في المدرسة، هذا كل ما يهمني، هي تكبر وتتحدث لغة هذه البلاد وتشعر بأنها ألمانية، وربما بدأ هذا الانتماء منذ يومها الأول في المدرسة، أما أنا فلا أعتقد أن هذا سيحصل.”
منذ بضعة أشهر وجد مهند عملاً كمحاسب بدوام جزئي، لم يعد البيت يعني أكثر من سقفٍ وجدران يحميان ابنته وزوجته، لا جيران ولا علاقات اجتماعية عدا بعض الزملاء في العمل، وهو يعتقد أن هذا يكفيه الآن. لكن تساؤله وزوجته بقي قوياً، نحن ندرس، نعمل، نربي طفلتنا ولكن هل هذا هو الاندماج الذي تطالبنا به ألمانيا؟
تمبلهوف.. الملجأ الأشهر في برلين
مئات اللاجئين يعيشون هنا.. بعضهم منذ أشهر والبعض الآخر منذ سنوات، حيث انتقلوا من الهنغارات الجماعية إلى كونتينرات مصممة كشقق صغيرة متجاورة بمساحة 24 متر مربع لكل منها، مؤلفة من غرفتين وحمام ومطبخ صغير، ومخصصة لأربعة أشخاص، يتسع المكان لحوالي 1024 شخصاً.
يقول السيد ماتياس نوفاك وهو عضو في المجلس التنفيذي لشركة “TAMAJA” التي تتولى إدارة وتخديم الكامب منذ 2015، إن الأوضاع الآن أفضل بما لا يقاس مع الفترة الأولى لتدفق اللاجئين حيث كانوا يعيشون في الهنغارات، فرغم صغر الشقة إلا أنها شقة خاصة في النهاية بحيث تتمتع العائلة المؤلفة من أربعة أشخاص بالخصوصية أخيراً، بينما يتشارك الأفراد الغرف.
يشير السيد نوفاك إلى أن نزلاء تمبلهوف يحصلون على المساعدة التي يحتاجونها للاندماج، ويوجد مكتب سوسيال أربايت ” Sozialarbeit Büro” يقدم المعلومات والاستشارات ومساعدات في الترجمة وغيرها، لكن قلةً منهم تمكنوا من إيجاد شقق وهو يرى أن مشكلة السكن في المدينة كبيرة ولا ترتبط بازدياد أعداد اللاجئين.
أخبرني السيد نوفاك أن لاجئين كثر تمكنوا من تعلم اللغة والحصول على عمل حتى أن بعضهم يعمل في إدارة الكامب نفسها مثل السيد محمد خضرو، وهو المدير المسؤول عن الشكاوى في الكامب، ويعد بمثابة صلة وصل بين اللاجئين والإدارة، عاش في تمبلهوف مدة عامين ونصف حتى تمكن أخيراً من إيجاد شقة بعد أن قدم أكثر من 120 طلباً، ووقف على طوابير انتظار مشاهدة الشقق مع مئات الناس المنتظرين من مختلف الجنسيات دون حتى أن يتلقى إيميل بالرفض.
لم يتمكن محمد من إيجاد هذه الشقة أخيراً لولا مساعدة المعارف وزملاء العمل الألمان وحتى الشركة التي يعمل لديها منحته توصية، حتى أسعفه الحظ أخيراً بالحصول على عرض.
أشكال الاستغلال في رحلة البحث
بحكم تواصله المستمر مع اللاجئين في الكامب يعرف محمد مقدار الاستغلال الذي يتعرضون له عند البحث عن سكن سواء من السماسرة الذين يطلبون مبالغ خيالية وتتفاوت حسب الموقع والمساحة “وللأسف أغلب هؤلاء السماسرة من أصولٍ عربية”، والعديد من اللاجئين تعرضوا للاحتيال حيث قاموا بالدفع ولكن دون وجود شقة، عدا عن تأجير الغرف بعقود WG ولكن مع الشراكة وحتى إلكترونياً هناك الكثير من الإيميلات التي تصل عبر بريد الشركات العقارية ويقع البعض فريسةً لها.
تبقى رحلة البحث عن مسكن هي الأكثر مشقة في هذه المرحلة من حياة اللاجئين، تجاوزوا الكثير في طريقهم إلى الأمان، عسى أن تكون هذه الخطوة الأخيرة موفقة ليتمكنوا أخيراً من الاستقرار والشعور بالانتماء ولو نسبياً.
إقرأ/ي أيضاً:
رمضان هذا العام.. في الغربة تجمعنا الدراما
مشكلة الارتباط في الغربة.. أمهات يبحثن عن عرائس على الفيسبوك، وفتيات يرفضن التسليع
رمضان في الغربة: طقسٌ لترسيخ جذور الهوية الثقافية ورحلة الذاكرة لاسترجاع الماضي