وديع فرح _ باحث وصحافي سوري
عشر سنوات قاسى خلالها السوريون من مختلف أصناف الألم والعذاب والحسرة بينَ دمار وموت وتهجير وهجرة ركبوا بسببها البحر مخاطرين بحياتهم من أجل الوصول إلى بلدٍ أوروبي. ولكن ثمّة من اختارَ العودة إلى وطنهِ سوريا بعد الهجرة إلى ألمانيا بملء إرادتهِ. في هذا التحقيق نتساءل حول أسباب الهجرة العكسية من ألمانيا، وما الذي يمكن أن يتكلّفه المرء من أثمان نتيجةً لقرارٍ كهذا؟
” حاول أن يفرض عليّ أمراً واقعاً .. فقرّرت العودة!”
في حيّ عشوائي من أحياء مدينة جرمانا التابعة لمحافظة ريف دمشق، تعيش عفراء (42 عاماً) وابنتيها سما (12 عاماً) ورهام ( 8 أعوام). العائلة التي قرَّرت العودة بملء إرادتها من ألمانيا قبل سنة من اليوم.
في شقّة سكنية مساحتها لا تتجاوز الخمسون متراً وتبعد عن مركز المدينة قرابة الربع ساعة مشياً على الأقدام. تسكن عائلة عفراء وتعاني من مشكلات خدمية تجعل أفراد تلك العائلة في حالة من التوتّر المستمرّ، فتقول عفراء لأبواب:
” لا تضيء الكهرباء هنا إلّا لستّة ساعاتٍ يومياً، ولا يمكننا أن نغسل ثيابنا أو نستحمَّ إلّا لمرّة واحدةٍ أسبوعياً. فالماء هنا لا تأتي إلّا كلّ يومين مرّة. هذا ناهيك عن عدم قدرتنا على تأمين مستلزمات عيشنا الرئيسية إلّا “بطلوع الروح” فالنشتري الخبز عليّ أن أنزل في منتصف الليل حيث يبدأ المعتَمَد (الموزِّع) بتوزيع الخبز على أهل الحيّ ولا أصعد إلى المنزل إلّا في الساعة الواحدة ليلاً أو بعدَ ذلك .. فأنا وحظّي فإمّا أن يكون عدد المشترين كبيراً أو يكون قليلاً.”
وتضيف عفراء: ” ولنشتري جرّة غازٍ علينا انتظار دورنا لمدّة طويلة تتجاوز أحياناً الشهرين، وأمّا المازوت فإمّا أن توزّع الحكومة خمسين ليتراً كلّ شتاء أو لا توزِّع أبداً .. هكذا نعيش هنا.”
اقرأ/ي أيضا: المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين: ارتفاع كبير في أعداد طالبي اللجوء في ألمانيا
فضلت العودة على قبول زواجه الثاني
وبالرغم من كلّ هذه الصعوبات فقد اختارت عفراء العودة مجدّداً إلى سوريا، بعدَ أن وصلت من خلال لمّ الشمل إلى ألمانيا في عام 2019، فلماذا إذاً ؟
تجيبنا عفراء بالقول: ” هناك أسباب عديدة دفعتني لاتخاذ ذلك القرار، أوّلاً لم يكد يمضي شهرين على وصولي إلى ألمانيا _ هامبورغ حتّى بدأ ينتابني شعوراً طاغياً بالاكتئاب فلم أشعر أنّي في البلد الذي أريد. فلا اللغة ولا الشعب ولا طريقة العيش هناك ناسبتني. ثمّ إنّ زوجي كانَ قد تزوَّج امرأة باكستانية تعيش هناك دون أن أعلم بذلك، وعندما وصلت اكتشفت الأمر.”
تتابع عفراء: ” وعندما حاول أن يضغط عليّ لفرض الأمر الواقع لزواجهِ ذاك، قرّرت العودة إلى سوريا.”
ولمّا سألنا عفراء إذا ما كانت نادمة على ذلك القرار. لا سيّما وأنَّ ألمانيا كانت لتكون بيئة أفضل لتنشئة ابنتيها بعيداً عن بيئة الحرب والفقر هنا في سوريا، أجابت: ” أحياناً أكون نادمة وأحياناً أخرى أشعر بأنّي فعلت الصواب، أمّا بالنسبة لرهام وسما فأعتقد أنّي ظلمتهما بتلك الخطوة ولم أدرك ذلك إلّا بعد فوات الأوان.”
الوحدة .. اللغة .. الاندماج
على الرغم من أنَّ محمَّد عبد الرحمن (36 عاماً)، لاجئ سابق في ألمانيا ومعلّم كهرباء في سوريا. محمد قد عاش لأكثر من عامين في ألمانيا_ دريسدن غير أنّه قرّر العودة إلى سوريا منذ أقلّ من ستّة أشهر، والعودة بذلك إلى عمله هنا كمعلّم كهرباء.
أصرّ محمّد بدايةً أن نؤكِّد عبر أبواب على شعوره بالامتنان والتقدير اتجاه الشعب والحكومة الألمانية لما قدّماه له وللسوريين من أمور وصفها بأنّها ” لا تقدَّر بثمنٍ”.
أمّا عن أسباب عودتهِ فيقول: ” بعدَ مضي سنة على وصولي إلى ألمانيا أصبحت شخصاً آخراً، لم أعد أرغب في الخروج إلى الشارع ومقابلة الناس ولم أعد أشعر بالارتياح لتواجدي في المنزل، وكان شعوراً غير مفهوماً ” مكركَب” فلا إن خرجت أشعر بالارتياح ولا إن بقيت في المنزل، وبدأت أفكّر في سوريا على مدار اليوم، أهلي وعملي والأصدقاء، شعرت بشوق كبير للجميع .. فقرّرت العودة.”
وعن إذا ما كان نادماً على هذا القرار يقول: ” للحقّ فإنّ الألمان لم يقدّموا لي إلّا كلّ ما هو خير. ولكن بلادهم وعاداتهم ولغتهم غير بلادنا وعاداتنا ولغتنا. أنا كالسمكة في الماء ما أن يُخْرِجُوْنِيْ من سوريا حتّى أشعر بالاختناق. وبالإجاية على سؤالك، فأنا لا أشعر بالندم فهناك كان عليّ أن أقضي سنتي في تدريب مهني لأمارس مهنةً أنا فيها معلِّم، وهذا لم يناسبي.”
بعض الفئات في المجتمع الألماني لاترحب بنا
أمّا توفيق الحمصي (25 عاماً)، لاجئ سابق في ألمانيا وطالب حالي في سوريا. يقول لأبواب عن سبب عودتهِ: ” لم أندمج في المجتمع الألماني رغم تعلّمي للغة. وفي الحقيقة شعرت أنّ في البلاد أشخاصاً لا يريدوننا هناك. فالحزب البديل من أجل ألمانيا وبغض التنظيمات المتطرّفة الأخرى كانت دائماً تشير إلى أنّنا الخطر. وأنَّ على الحكومة إجبارنا على الإندماج وإن لم نتمكَّن عليهم ترحيلنا.”
ويضيف توفيق: ” ولم أستطع، بالرغم من محاولاتي الكثيرة، أن أكوِّن صداقات مع ألمان فهم لا يكادون يعرفون أنّي لاجئ سوري حتّى ينفرون منّي .. لا أقل الجميع، ولكن من هم في عمري كانوا كذلك، ومع تراكم المواقف شعرت أنّي بأمسّ الحاجة للعودة إلى سوريا.”
تتباين الأسباب وتختلف في اتخاذ بعض السوريين لقرار الهجرة العكسية من ألمانيا إلى سوريا. ولكنْ يمكننا القول أنّ التباينات الثقافية والمجتمعية بين الشعبين تشكّل القاسم المشترك لمعظم الحالات التي عايناها في تحقيقنا هذا.