غيرت أزمة اللاجئين من حاضر مدينة آلتينا الواقعة في ولاية شمال الراين –ويستفاليا الألمانية، فبعد أن هجرتها الشركات وثلث سكانها، فتحت أبوابها للاجئين وعمل سكانها على مساعدتهم في ترميم شققهم وتعلمهم اللغة الألمانية.
يبتسم فهد العزاوي ويعلو محياه الرضا، فقد وقع قبل قليل عقد إيجار شقته الأولى في مدينة آلتينا. يتناهى صوت غليان أبريق الشاي من المطبخ. أصدقاء فهد مازالوا يعيشون في المآوي الجماعية بمدينة دورتموند التي باتت تبعد عنه الآن نحو 40 كلم . “الأمر ليس طبيعيًا بالنسبة للاجئ مثلي”، يقول فهد بلغة ألمانية جيدة.
وعمل فهد العزاوي (28 عامًا) طبيبًا في مدينة الموصل العراقية، “لم أرغب في معالجة مقاتلي داعش، لذلك هربت إلى ألمانيا”. وينشغل اللاجئ العراقي بتلبية متطلبات الاعتراف بشهادته، إذ بات راغبًا في العمل بعد عامين من قدومه إلى ألمانيا. ومثل فهد يعيش اليوم في مدينة آلتينا قرابة 400 لاجئ، أغلبهم من سوريا، كما ينحدر بعضهم من أفغانستان والعراق وإريتريا.
آلتينا على شفا هاوية
قبل أعوام قليلة كانت مدينة آلتينا “أسرع مدن ألمانيا انكماشًا”، إذ غادرتها الشركات الكبرى وفقد الكثيرون وظائفهم، فهجرها ربع سكانها منذ عام 1970. وعلى حين غرة باتت مئات الشقق فارغة وأغلقت الكثير من المتاجر أبوابها، في ما يشبه دوامة انحدار نحو الهاوية. وهو ما دفع المسؤولين في المدينة إلى مواجهة ذلك، وبدؤوا بتغيير بنية المدينة.
حين تذهب ليزا غودرا متنزهة عبر شوارع آلتينا إلى محل عملها المستقبلي، تتبادل التحيات والسلام هنا وهناك، فالكثير من سكان المدينة البالغ تعدداهم نحو 17 ألف نسمة يعرف بعضه بعضًا. الشابة الألمانية العاملة في مجال تخطيط المدن تعرف أيضًا بعض الوافدين الجدد إلى المدينة، القليل منهم يساعدون في تغيير بناء حانة سابقة، وينقلون أكياس الإسمنت وحك الجدران وتنظيفها ومد الكابلات. وكل هذه الأعمال تتم تحت إشراف حرفيين مهرة. وبسبب الإفلاس كانت إدارة المدينة قد باعت هذا المبنى الواقع على نهر لينه.
والآن تستمر الأعمال هنا لإقامة ملتقى للاجئين، ومن المقرر أن تُقدم فيه دورات اللغة والكومبيوتر، وستقوم ليزا غودرا بإدارة هذا الملتقى الذي يشكل جزءًا من التغييرات الحاصلة في المدينة.
ويعكس مشروع البناء هذا بوضوح الطريق الذي تسلكه مدينة آلتينا في التعامل مع أزمة اللاجئين، ففي أوج هذه الأزمة عام 2015، حين وفدت إلى ألمانيا أعداد غير متخيلة من اللاجئين، باتت مدينة آلتينا محط اهتمام وسائل الإعلام. إذ أعلن عمدتها أن المدينة ستستقبل طواعية 100 لاجئ أكثر من الحصة المقرر لها استقبالها منهم. وكان أمرًا فريدًا في أوج تلك الأزمة.
استعداد كبير للمساعدة
زيارة الموقع في شارع فيلهلم بحي برايتنهاغن. يشير يؤاخيم إيفرتز إلى صف من أربعة منازل أنيقة، تعود ملكيتها إلى “شركة إدارة البناء والمساكن”، التي يديرها. كبر الحي خلال خمسينات القرن الماضي، حين ازدهرت مصانع الحديد والفولاذ في آلتينا واحتاج العاملون في هذا المجال إلى منازل تأويهم. يقول إيفرتز: “اليوم، لدينا 200 شقة فارغة من أصل 1900 نملكها”، موضحًا أن بعضها سيتم هدمها. لكن اللاجئين مثل فهد العزاوي يشغلون 90 شقة من الشقق العائدة للشركة.
في ممر المبنى، الذي تقع فيه شقة فهد، عُلقت لائحة حفظ النظام والنظافة في المبنى باللغة العربية. “نوزع هؤلاء الأشخاص بشكل غير مركزي في منازل تكون لهم فيها جيرة جيدة”، يقول إيفرتز، مضيفًا: “وتجاربنا جيدة جدًا حتى الآن”. ويبدي إيفرتز إعجابه الكبير بالاستعداد الكبير للمساعدة الذي يتمتع به سكان المدينة.
ومن أسباب تفضيل اللاجئين الإقامة في مدينة آلتينا، هي “العناية التي يحظون بها من سكانها”، كما يقول العمدة أندرياس هولشتاين، موضحاً أن لكل عائلة لاجئة يوجد شخص مسؤول يمكن الاتصال به، كما أنه لم يتم إسكان اللاجئين في القاعات الرياضية أو الحاويات، وإنما في منازل عادية. إضافة إلى ذلك يقدم لهم كثير من المتطوعين دروسًا في اللغة الألمانية ويساعدونهم في ترميم شققهم. وقد حصل بعضهم على عمل هنا بسرعة. ونظم هولشتاين بورصات معلومات ووظائف مع أرباب العمل.
جائزة الاندماج
سرعان ما أتت الخطة التي وضعتها المدينة، أكلها: فكانت آلتينا أول مدينة في ألمانيا تحصل على جائزة الاندماج الوطنية من المستشارة أنغيلا ميركل، وكان ذلك في مايو/ أيار 2017، حيث ورد في قرار منح الجائزة أن المدينة “قدمت خدمات يُحتذى بها من أجل اندماج المهاجرين والمهاجرات”. وصورة منح الجائزة تظهر العمدة أندرياس هولشتاين واقفًا بفخر إلى جانب المستشارة.
يبدو مركز التسوق في آلتينا مهجورًا، ففي هذا المشهد الكئيب الكثير من المتاجر خالية، كان آخرها سوبرماركت “توم”، ولم يبق سوى بعض محلات الملابس الرخيصة وأكشاك بيع الصحف ومخبز. خيبة الأمل تعلو محيا سيدة شابة تهم باللحاق بالباص، وتقول: “الحياة شبه ميتة في آلتينا، لا توجد متاجر أو طبيب أو مستشفى”.
مسن متقاعد ينحدر من بريسلاو البولندية يقول: “كنت أنا نفسي لاجئًا، ويسعدني أن يأتي هؤلاء اللاجئون إلينا”. السيدة الشابة التي تدفع أمامها عربة أطفال تنام فيها طفلة في ربيعها الثاني، تقول بدورها: “أنا من آلتينا، وسأهجر المدينة حالما أجد عملاً في مكان آخر”.
غيرت مدينة آلتينا حركة المرور، وزينت الوادي الضيق للنهر بكورنيش للمشاة. وأقامت مصعدًا، أطلقت عليه “مصعد المشاهدات”، ويأخذ زوار المدينة وسياحها عبر الجبل إلى قلعة آلتينا، التي تتوج مرتفعات منحدرة على نهر لينه.
لكن أعمال إعمار المدينة لم تنته بعد، كما يقول عمدتها، وستسمر إلى وقت طويل. وكما هول الحال مع الاندماج، فإن ذلك “ليس بالجولة القصيرة، وإنما مهمة على المدى الطويل”.