نيرمينة الرفاعي.
“لأنَّ الكرامة ليست مصادفة، ولأنَّ الحرّية ليست مصادفة”
يتنقّلُ دلير يوسف بذاكرته ما بين المدن التي أحبّها بملء إرادته، يتحدث عن دمشق التي يصفها بأنَّها لغته التي يشتقّ منها حكايته، وعن حماة الممتدة على طول خارطته ونواعيرها وحصتّها من الدم والتعب، عن حمص وأبوابها ومداخلها، يمرّ على درعا وكفرنبل ومخيّم اليرموك، يتحسس بكلماته دير الزور والقامشلي وإدلب واللاذقية والسويداء وبانياس والجولان، يتكلّم عن كل مدينة كأنها طفلته، يحارب الوحدة والعزلة ويصرُّ على البحث عن الحقيقة وعن ذاته في قلب النار والموت.
يكتب دلير بكثافة، يقارع لعنة الدموع التي لا تفارقه، ثم يجرّب الموسيقا واللوحات المعلّقة على الجدار ورسائل العشيقات السابقات ثم يعود إلى وحدته قائلاً: “ليس لنا في الغياب إلّا نحن”.
يتحدّث عن اليأس باعتباره خيانة، عن الحب وموت الشهيد الصاخب، عن الحياة التي يعيشها السوري رغمًا عن كل شيء، عن خزانات الماء الكبيرة الموضوعة في منتصف الحارات، وعن “النرجيلة” المنتشرة على الأرصفة وأصحابها الذين يواظبون على استخدام الفيسبوك والسكايب للاتصال مع العالم، وعن العائلات التي لجأت إلى الحظائر هربًا من القصف. ينظر عن كثب إلى البلاد التي يراها العالم كمكان لحرب أهلية لا أكثر، فلا أحد يرى تفاصيل الأمل المختبئة في رسائل فتاة منعتها كثافة الرصاص من الالتقاء بالرجل الذي تحبّ، ولا أحد يرى السباق نحو الخبز أو تهريب المازوت أو بكاء مسعف تأخر في الوصول إلى جسد أصبح جثّة لخلل بسيط في الزمن والمسافة.
تكاد تسمع بين الصفحات هتافات القاشوش وعبد الباسط ساروت وهادي الجندي،
فكما يقول دلير: “في بدء الثورة كانت الكلمة، كانت الأغنية”.. مع الموسيقا تختلط رائحة الخزامى التي ظلّت أثرًا في قلبه لأجساد الذين سقطوا دون أسماء، يربطُ قلبه بحبل مشيمة إلى تراب منقوص الشاهدة، ويستمرّ في توريث الغناء والرسائل لأطفاله الذين لم يأتوا بعد..
يوجه دلير يوسف رسائله كإنسان، متخليًّا عن انتماءاته الضيقة التي لم يخترها، أمه العراقية وأبوه السوري الكردي واسمه صعب النطق لم يردعوه عن توجيه رسائل إنسانية شاملة، بل حتى أنَّ حسن نصر الله نال نصيبه من الرسائل، سأله دلير ببساطة إن كان يعلم أن في دمشق مقابرَ وثنية عمرها أطول من عمر كل الأديان الموجودة على الأرض، سأله كيف ينام ليلاً، وراهنه على أنَّه حتى في بيروت له أكثر مما قد يتخيّل، بيروت التي لا شيء فيها يُحَبُّ ولكنَّه يحبّها، بيروت حيثُ لا مكان للاجئ سوى لدى اللاجئ، بيروت التي تمتد في ذاكرته كغيرها من المدن التي ما عاد يميّز بينها وبين حبيباته.
وسط كلّ هذا تبزغ ومضات حبّ يسردها كطرف جانبي ينظر إلى العشاق في دمشق وبرلين وأمستردام،
هو الحبّ يبقى كترنيمة إلهية ترددها كلّ القلوب، هو الحبّ الذي يجعل صوت القصف ذات شباط في دمشق تشبه صوت قطار الأنفاق في أحد أيام حزيران في برلين، هو الحبّ الذي يجلسُ على مقعد خشبي مبلل في أمستردام غير عابئ بما يدور من حوله، هو الحبّ الذي يجعل هذا العالم مكانًا أفضل، هو الأمل الذي ليس خيانة ولا حتى إن فاض عن الحاجة.
يلجأ الكاتب إلى الفانتازيا، يروي حكاية الثورة بعد مئات السنين على طريقة كان يا مكان، يستهلّ حديثه بأنّه كان هناك طاغية في أرض الشام عاث في بلاده الفساد، ثم هرب إلى ما وراء البحار، ولكنَّ شعبه حاكمه محاكمة عادلة وأنزل به عقوبة الإعدام. يعود مرّة أخرى إلى أرض الواقع ويتلفّت باحثًا عن بيته ويقول: “لماذا يا سيدي علينا أن نشتري الكراسي الجديدة ونحن لا نملك المنازل؟ لماذا”؟
“قل حزنك فور وقوعه، قل دمك فور اندفاعه، وقل قلبك فور ملامسته للنار”.
يقول أيضًا: “لا مكان لقدمي على هذه الأرض”، ولكن على الغلاف يقفُ رجل لا نرى منه أكثر من رأسه ومكان وقوف أقدامه الحافية وسط بقعة بيضاء ناصعة.
يحكي دلير بكثافة عن الذين يقطعُون الطرقات تهريبًا وهم يحذّرون بعضهم البعض بجملة: “دير بالك من الكشّافات”، ولكنَّه يسلّط الضوء على الأرواح الدامعة ويصرخ في وجه الصمت: “قل حزنك فور وقوعه، قل دمك فور اندفاعه، وقل قلبك فور ملامسته للنار”.
يضيف ليبيا في آخر حديثه إلى قائمة بلاده الحبيبة ويشكر وجوه أبنائها الذين يعتذر لأنه لم يرهم قبل السابع عشر من شباط،2011، يعتذر لأنَّه كأغلب الشعب العربي لطالما ضحك على أقوال طاغيته ونسي أن يبكي على جرائمه.
يجدرُ بالذكر أنَّ النصوص الواردة في الكتاب كُتبت بين 2010-2014، كما أنَّ العنوان هو عنوان مقالة لإلياس خوري الذي وافق مشكورًا على التشابه. صدر الكتاب عن الرابطة السورية للمواطنة ضمن سلسلة شهادات سورية وحمل الرقم 5.
يقولُ دلير يوسف في أحد الصفحات على لسان صديقه “أبو محمد للمقدسي” -وهو اسم مستعار-: “الإنسان فكرة، بيعيش وبيموت مشانها”، ويبدو أن حكايات زماننا هذا هي نفسها الأفكار التي نعيش ونموت من أجلها مهما تشابهت أو اختلفت العناوين.