وأخيرًا، وبعد طول انتظار، تم الإعتراف بي كإنسان، وقررت الحكومة الألمانية منحي وثيقة تثبت أنّ لي الحق بالإقامة على أرضها لمدة عام كامل، بل وأن لي الحق باختيار منزل لأسكن فيه.
ولأنّي من هواة التخطيط والغرق في أحلام اليقظة، كنتُ قد استفدتُ من العام الذي أمضيته في انتظار قرار “أنسنتي” بالتجول في شوارع القرية التي قررت الحكومة الألمانية أنها المكان المناسب لي، وفي شوارع القرى والمدن القريبة، لأتعرف على المناطق اللطيفة، التي يمكن أن تكون خيارًا مناسبًا للعيش، وعلى واجهات محال المفروشات، وأدوات المنزل، موزّعًا مبلغ المعونة التي قيل لي إنني سأتلقاها لتأثيث المنزل الحلم عشرات المرات، باحثًا عن أفضل العروض، مغيرًا مزاج المنزل المنتظر مع تقلبات مزاجي، فتارةً أجعله من الطراز الكلاسيكي القديم، بمصابيح خشبية ومقاعد عتيقة وأطباق من الفخار، وتارةً أختار نمطًا حديثًا بأريكة جلدية وثيرة وتماثيل من مرحلة ما بعد الحداثة. لِمِ لا؟ الحلم مجانيّ، فما الذي يمنعني من البذخ كأمير بريطاني؟
بعد اطلاعي على الشروط التي تحدد لي مواصفات المنزل الذي تسمح لي الحكومة الألمانية بالإقامة فيه، رغم أني قد قرأتها قبل قرار الإقامة عشرات المرات لكنّ الاطلاع عليها بعد الظفر بقرار الإقامة أمرٌ مختلف، جهّزت المترجم الفوري ودخلت إلى المواقع المختصة بتأجير البيوت. متبعًا ذات التكتيك الممتع في الاستغراق بأحلام اليقظة، وبدأت البحث اعتمادًا على المساحة المحددة لي، دون تحديد السعر، فالـ “مصاري” وسخ الدنيا، وحين أجد المنزل الملائم “إن شاء الله ما بنختلف”.
مئات المنازل المناسبة!
عروض كثيرة، وصور جميلة لإطلالات مذهلة، أنهار وغابات، بضع خطوات عن محطة القطار، لماذا “ينقّ” اللاجئون بلا توقف إذن؟ تابعت جولتي متمعّنًا في التفاصيل، متخيلاً مطبخي الجميل، مكان طاولتي التي ستكون مركز إشعاع ثقافي، الصالون الذي سأحوّله لصالون أدبي، أحلام وأحلام وأحلام.
على لذّة الأحلام، كان لا بد من العودة إلى أرض الواقع، أعدتُ البحث محددًا المساحة، والسعر،وكانت الصدمة:
تقلّصت الأحلام كالسيدة ملعقة في برامج الأطفال، عشرات العروض انكمشت لتصبح ثلاث شقق متاحة فقط، حسنًا، لا مبرر للإحباط، فأنا بحاجة منزل واحد في النهاية، أقنعت أحلامي بأن كثرة الخيارات ستضعني في حيرة أنا بغنىً عنها، وحسمت أمري، أيّا تكن حالة هذه المنازل الثلاثة، سأسكن أحدها.. أجل، المهم هو “السترة”.
تسلّحت بلغتي الإنكليزية المتوسطة، وبتفاؤلي الأزلي السرمدي، وبدأت اتصالاتي:
اعتذر صاحب البيت الأول عن متابعة الحديث لحظة معرفته أنّي لاجئ، وأنّ “الجوب سنتر” هو المسؤول عن دفع الأجرة. هذا إذا كان من الممكن اعتبار كلمة: لا، وقطع الاتصال، نوعًا من الاعتذار العملي.
أما البيت الثاني، فقد كان صاحبه لطيفًا، متعاونًا، وحدد لي موعدًا بعد أسبوعين لمعاينة المنزل، وإذا تمّ الاتفاق، أستطيع الانتقال بعد ثلاثة أشهر بسبب أعمال الصيانة.
استجمعتُ كلّ ما خزّنته من طاقة إيجابية، واستحضرت كل فعلٍ طيبٍ قمت به عبر عقود حياتي، عسى أن تسعفني الـ”كارما”، وأجريت الاتصال الثالث.. اتصال الأمل الأخير.
فُرجت!
موعد منطقي بعد بضعة أيام، نبرة السيدة التي يوحي صوتها أنها في العقد السابع من عمرها، أموميّة حنونة، وأنا واثق أن كلّ شيء سيكون على مايرام.. بل على خير ما يرام.
تأنقتُ ما أمكنني يوم الموعد، وفكرت جديًّا بأخذ باقة من الزهور معي، لكن بقايا العقل في رأسي منعتني في اللحظة الأخيرة، وانطلقت لمعاينة منزل الأحلام.
وصلت العنوان، وأدهشني تجمع لقرابة الثلاثين شابًا وفتاة، شرقيي الملامح عند المدخل، اقتربت بدافع الفضول، فصارت اللهجة السورية مسموعة، لم أحتج لأكثر من دقيقة لأعرف أن هؤلاء، هم مثلي تمامًا، قادمون لمعاينة منزل الأحلام، متفائلين بالنبرة الأموميّة، هل ستجري لنا صاحبة المنزل اختبارًا لتحدد من الفائز بشقتها؟ ما هي الميزات التي قد تكون حاسمة في هذه المنافسة؟ هل كان عليّ أن أصطحب معي سيرتي الذاتية مثلاً؟
عدتُ إلى مكان إقامتي، متفائلاً، فالغدد الصم في جسدي مصابة بفرط إفراز مضادات الاكتئاب، معتمدًا على أنّ ثمةَ احتمالٌ جيدٌ بتمديد إقامتي لمدة سنتين كاملتين، وحينها، سيكون أمامي متّسع من الوقت لأجد منزل أحلامي.