د. بسام عويل اختصاصي علم النفس العيادي والصحة النفسية والجنسية
نعاني جميعاً بشكل أو بآخر من المشاكل النفسية، سواء بسبب مشكلات التكيف، أو الخبرات الحياتية السيئة والصدمات المتنوعة المباشرة أو غير المباشرة التي مرت وتمر بحياتنا، لكنّ الكثير منها لا ترتقي بالضرورة إلى مستوى الاضطراب أو المرض النفسي.
تعد اضطرابات الصحة النفسية في الوقت الحاضر واحدةً من أهم المشاكل الصحية خطورة على الصحة، وهي تأتي مباشرة بعد أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان كأحد مسببات الوفاة. وتأتي خطورتها من تناميها بوتيرة سريعة. فوفقًا لمعطيات منظمة الصحة العالمية (WHO) فإن ما يصل إلى 38% من الأوروبيين مثلاً يعانون من أنواع مختلفة من الأمراض النفسية ومثلهم الأمريكان، وتوضح التقديرات أن ما يصل إلى ثلث سكان العالم يعاني من أنواع مختلفة من المشاكل النفسية أكثر أو أقل خطورة، مما يشكل عبئًا متزايدًا على الصحة العامة، في وقتٍ يتلقى فيه حوالي ثلث المضطربين والمرضى فقط العلاج اللازم وفي الوقت المناسب.
الاضطراب النفسي والمرض النفسي
لنوضح بدايةً الفرق بين المرض النفسي والاضطراب النفسي. ببساطة، الأمراض النفسية (العقلية) ترتبط بعطب أو تشوهات في عمل الدماغ تؤدي إلى تغيرات لا رجعة فيها أو يصعب علاجها، وقد تتطور لفترة طويلة جدًا وتكون خفيفة أو معتدلة أو شديدة. من أجل علاجها من الضروري الحصول على مساعدة تخصصية من طبيب نفسي أو معالج نفسي، وتتضمن على العموم العلاج الدوائي. تشمل الأمراض العقلية على سبيل المثال انفصام الشخصية والاضطراب أحادي وثنائي القطب، وكذلك الاضطرابات الناتجة عن التغيرات العضوية في الجهاز العصبي المركزي.
فيما يشار إلى تلك التغيرات غير العضوية بالاضطرابات النفسية العقلية، وهي الأكثر شيوعًا وتسمى بالعصابات لكونها تؤثر على أداء الجهاز العصبي دون أن يكون معطوبًا بذاته. وهذه الاضطرابات قد تكون انتيابية، مزمنة، طويلة الأمد ومتكررة، وخفيفة أو شديدة، ولكن المشترك فيها هو أنها تعيق الأداء الطبيعي المهني والاجتماعي للفرد وتؤثر على تفكيره وعواطفه وسلوكه. كما أن السمة المشتركة بين المضطربين هي المعاناة من الذعر أو القلق المزمن والخوف الذي يصبح عقبة في حياتهم اليومية العادية.
الأمراض والاضطرابات النفسية الشائعة في القرن الحادي والعشرين
يتصدر الاكتئاب المرتبة الأولى كمرض حضاري بين الاضطرابات النفسية، كما أنه أكثر الأمراض تكلفةً من الناحية الاجتماعية بعد السرطان مباشرةً. كما تشمل الاضطرابات النفسية الخطيرة الشائعة اضطرابات القلق، والإدمان والاضطرابات الجسدية الناتجة عن تعاطي الأدوية ذات التأثير النفسي، إضافةً للأرق واضطراب فرط الحركة وضعف الانتباه والزهايمر والخرف.
ومما يثير القلق أكثر اتساع انتشار الاضطرابات والأمراض النفسية بشكل متزايد بين الأطفال والتي تتخذ البعد النمائي، بمعنى أنها تعيق النمو النفسي والاجتماعي وأداء مهمات النمو المتوازن، كاضطرابات طيف التوحد (Autyzm) وفرط النشاط العصبي واضطرابات الانتباه (ADHD). أما حصة المراهقين من تلك الاضطرابات الأكثر شيوعا فهي اضطرابات الأكل ومنها فقدان الشهية (Anoreksja)، الشره المرضي (Bulimia) ومتلازمة الأكل القهري.
وعلى هذا الحال فقد أصبحت الاضطرابات النفسية التحدي الصحي الأكبر في القرن الحادي والعشرين.
أساطير وحقائق عن الاضطرابات النفسية العقلية
على الرغم من انتشار الحملات التوعوية، فإنه لا يزال هناك العديد من المواقف والمعتقدات الضارة تجاه الاضطرابات النفسية التي تغذي دون داع الوصم والتمييز ضد الأشخاص الذين يعانون من هذا النوع من الأمراض والاضطرابات. إن الوصم والأساطير حول الاضطرابات والأمراض العقلية تؤدي إلى عدم طلب المساعدة حتى من المقربين، خوفًا من التعرض للسخرية واعتبارهم ” مجانين”.
من أكثر الخرافات والأساطير والحكايات الخيالية حول الاضطرابات النفسية:
- الاضطراب والمرض النفسي لا ولن يمسني.
الحقيقة: إن الصحة النفسية يمكن أن تتغير يوماً بعد يوم كما هو الحال في الصحة البدنية. نتأثر كل يوم بآلاف العوامل التي تؤثر على حالة عواطفنا ومرونتنا النفسية، بما في ذلك كيفية تعاملنا مع المحن والتوتر. اليوم أنت شخص مبتسم مليء بالطاقة. في ظل ظروف غير مواتية، قد تصبح على وشك الانهيار العصبي (أزمة نفسية) أو اكتئاب عميق خلال شهر. لا نعرف أبدًا كيف يمكن لأحداث الحياة المعاكسة أن تؤثر على صحتنا العقلية، لذلك لا يمكننا القول إن اضطرابات من هذا النوع لن تمسنا أبدًا. - المرض النفسي دليل ضعف.
الحقيقة: المرض النفسي ليس نتيجة الضعف، ولكنه مزيج من الخبرات الحياتية والخلفية البيولوجية. لقد ولدنا جميعًا بمزيج من الجينات التي تجعلنا بدرجات متفاوتة عرضة للاضطرابات والأمراض ومنها النفسية. وأعراض الاضطرابات والأمراض النفسية هي ردود فعل الجسم تجاه الصدمة التي يمر بها. إنها ليست علامة ضعف – بل مقاومة تحتاج إلى الكثير من القوة للنجاة من المرض والمضي قدمًا. - العلاج النفسي هو مضيعة للمال والوقت.
الحقيقة: العلاج النفسي والمدعوم أحيانًا بالعلاج الدوائي هو وسيلة للتعامل مع الاضطرابات النفسية، يساعد في بناء الثقة بالنفس ويعلمك كيفية التعامل مع المواقف الصعبة. يعطي المعالج للمتعالج الأدوات ويعلمه كيفية استخدامها، والتي لم يكن المريض ليعرفها إذا لم يقرر الخضوع للعلاج وكان سيبقى يتخبط في مشكلاته مدى الحياة ويسيء لنفسه ولأقاربه ومجتمعه. ولا تمنح أي أدوية نفسية بمعزل عن العلاج النفسي الأدوات والمهارات التي تسمح له بالعمل بشكل طبيعي في المجتمع.
الاعتناء بالصحة النفسية بشكل يومي
هناك الكثير من الطرق والأدوات التي من شأنها أن تجعلنا أكثر صحة ومناعة على المستوى النفسي ومنها:
- النشاط البدني
تؤكد العديد من الدراسات أن الأشخاص الذين يكرسون حوالي 30 دقيقة يوميًا لأي نشاط بدني (كالمشوار، أو الذهاب مشياً إلى العمل، أو تمارين الجمباز، أو ركوب الدراجات، إلخ) أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب، ونادرًا ما يشكون من الأرق والتعب والإرهاق النفسي. حيث أنّ النشاط البدني يحسن أيضًا التركيز العقلي والأداء الفكري. - التواصل مع الذات ومع البيئة
اللغة التي نستخدمها هامة جدًا للحفاظ على صحة نفسية جيدة. فالتعميمات المبالغ فيها واستخدام الكلمات مثل “أبدًا”، “دائمًا”، “كل”، “لا شيء”، يحدد سلوكنا ويجعلنا نعتقد أن “لن أحقق هذا أبدًا”، “لقد أفسدت كل شيء”، “أفشل في أي شيء”.
الرسائل ذات العلامات السلبية تقلل من احترام الذات، وبقولنا مثل هذه الجمل نتوقف عن العمل على أنفسنا والتعلم والتطور. والأمر نفسه ينطبق على حالات الفشل، فنحن نتعامل معها غالبًا على أنها “نهاية العالم” ومأساة الحياة، ولكن يمكننا التعامل معها كمبادئ توجيهية لتحقيق النجاح بطريقة مختلفة عما هو مخطط له. وهذا يؤدي إلى مزيد من النجاح والتطور. - الوسط المحيط
وجودنا بين أشخاص يزعجوننا، وكذلك بين أشخاص عدوانيين تجاه الآخرين، أو أشخاص مُحبطين ومتذمرين بشكل دائم وكذلك المتشائمين، يجعل إحساسنا بالأمان مضطربًا. والحل الجيد هو تغيير البيئة والابتعاد عن هؤلاء الأشخاص. من المهم أن نعرف أننا لن نغير هؤلاء الناس وما يمكننا فقط هو تغيير أنفسنا. - تعاملنا مع العواطف
إن معرفة كيفية “الاتصال” بمشاعرك أمر مهم للغاية. ومن المضر أن نبقى في عجلة من أمرنا باستمرار وننسى الاستمتاع بالأشياء الصغيرة. علينا أن نسمح لأنفسنا بأن نكون سعداء ونبتسم حتى ونحن غاضبين وحزينين. محاولتنا تسمية ما نشعر به على شاكلة “أشعر بالحزن لأن …”، “أنا غاضب لأن …”. هذه الرسائل البسيطة وتسمية المشاعر تجعلنا نتعلم من بين أشياء أخرى المسؤولة عن سلوكنا ومشاعرنا.
لنحافظ على صحتنا النفسية فهي مصدر قوتنا في التعامل مع المتغيرات الحياتية كما أنها مصدر إمدادنا بالسكينة والسعادة والتوازن الذي نبتغيه لأنفسنا، ولنطلب المساعدة من المختص ففي ذلك أقصر الطرق للوصول إلى الهدف وحل المشكلات والتمتع بالحياة.
اقرأ/ي أيضاً:
النظام الصحي النفسي في ألمانيا.. أين تتجه ومن تستشير وكيف تحصل على الخدمات النفسية
عن الصحة النفسية للاجئين في برلين… استراحة المحارب