ليليان بيتان*
تعتبر ألمانيا دولة ديمقراطية علمانية كأي دولة من دول الاتحاد الأوروبي. الدولة والدين منفصلان عن بعضهما بحسب الدستور الألماني، ولكن ليس 100%!، ما هو الدور الذي تلعبه الكنيسة والمجتمعات الدينية الأخرى في هيكلية الدولة الألمانية؟
عندما رفض طالب مسلم من مدرسة كورت تشوخولسكي في هامبورغ مصافحة مدرّسته -كما هو متعارف عليه في نهاية العام- بحجة دينه الإسلامي، ثار الإعلام الألماني لهذه الحادثة عدة أيام. بدأت المناظرات عن الأدب العام، حقوق المرأة، واحترام العادات الدينية المختلفة، وكذلك دور الدين الإسلامي في ألمانيا. بالطبع تم تسييس هذه المناظرات والمناقشات، لأن الحادثة حصلت في مدرسة حكومية في دولة علمانية! وبالتالي، فلا مكان للدين في المدارس الألمانية حسب ادعاء البعض. ولكن مناقشات “المصافحة للمسلمين” في المدارس لم تنته ببساطة، حيث أن المدارس الألمانية تقوم بتدريس الدين كمادة رسمية، والحزب “المسيحي” الديمقراطي الحاكم، وأحد أكبر الأحزاب شعبية في ألمانيا، يحمل اسم “المسيحي”. إضافة إلى ذلك فإن كل شخص يقوم بالتسجيل في دائرة الضرائب وينتمي لإحدى الكنيستين الكاثوليكية أو البروتستانتية، عليه دفع الضريبة الكنسية التي تقوم “الدولة” بتحصيلها.
إن التقارب الكبير بين الدولة الألمانية والدين أمرٌ ملاحظٌ في العديد من النواحي المختلفة في ألمانيا. وفهم هذه العلاقة ليس سهلاً على الإطلاق. تعريف للعلمانية واضح وصريح: “إن الدولة العلمانية، هي الدولة التي تراعي الأمور الدنيوية حصرًا”. هذا ما يوضحه أستاذ قانون الدولة والكنيسة والقوانين المدنية في جامعة كولونيا، البروفيسور (شتيفان موكل): “ليس للدولة أي اختصاص ديني، وليست لديها القدرة على التدخل في الأمور الدينية أو العقائدية”.
وعليه، فإن الدولة العلمانية هي دولة محايدة بالنسبة إلى الأديان ولا يمكنها مناصرة طرف على آخر من الناحية الدينية، وتساوي بين جميع الديانات دون أي تفرقة بينها “إن جميع الديانات متساوية حسب القانون الأساسي والدستور الألماني، ولكن وجود أكثر من 25 مليونًا يتبعون لديانة معينة بمقابل 25 ألفًا من ديانة أخرى، يجعل الواقع مختلفًا”.
الدولة تفصل نفسها عن الدين
مبادئ العلمانية تطلب من الدولة الألمانية على سبيل المثال، أن تُخرج نفسها من النقاش الدائر حاليا، إن كان يمكن للنساء في الكنيسة الكاثوليكية أن يصبحن قسيسات أم لا، رغم وجود قانون المساواة بين الرجل والمرأة في الدستور الألماني. يضاف إلى ذلك محتوى مادة الديانة المسيحية في المدارس الألمانية، حيث أن المحتوى تحدده الكنيسة حصرًا. في العديد من الولايات الألمانية، بدأ تقديم مادة الديانة الإسلامية أيضًا كمادة اختيارية يمكن للطلبة الحصول عليها. ما يمكن أن تطالب به الدولة الألمانية هو أن يكون أساتذة المواد الدينية من الدارسين والحاصلين على الشهادات العلمية التي تؤهلهم لتدريس هذه المواد، وأن تكون الدروس بالألمانية حصرًا في المدارس الحكومية. بالطبع، لا يمكن لأي أحد أن يجبر الطلبة على حضور مادة الديانة في ألمانيا، حيث أن حرية العقيدة والديانة مكفولة في الدستور الألماني، والذي يضمن أيضًا حرية عدم الانتماء لأية ديانة كانت.
إن “علمنة” ألمانيا كانت نتيجة الحرب الطاحنة التي حصلت بين الطوائف المسيحية المختلفة التي استمرت حتى نهاية القرن السابع عشر. حيث أن المعارك الدموية التي حصلت بين الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية أدت للوصول إلى مشكلة أن هيكلة الدولة لا يمكن أن تبنى على أساس إحدى هاتين الطائفتين. في نهاية الحرب العالمية الأولى، تم اعتماد العلمانية في ألمانيا، وقام دستور فايمر والذي قامت عليه الجمهورية الألمانية الأولى في عام 1919 بفصل الدولة عن الدين، وضمَن حرية الديانة في ألمانيا. المادة نفسها أخذت كما هي وتم استخدامها في الدستور الألماني الذي تم اعتماده بعد الحرب العالمية الثانية عام 1949.
لا يوجد فصل حقيقي بين الدولة والدين
بالشكل العام لا يجب أن يكون هنالك أي ربط بين الهيكليات الكنسية والدينية والدولة على مستوى المؤسسات، ولكن لماذا يتم تقديم مادة الديانة في المدارس الألمانية؟
“إن الفصل بين الدولة والكنيسة لم يتم اعتماده بشكل صارم جدًا كما هو موضح في القانون الأساسي، وهذا من مصلحة الشعب”. بحسب البروفيسور موكل.
إن دروس الديانة في المدارس أمر طلبه كاتبو الدستور الألماني، ولهذا تم الانحراف عن الفصل الحاد بين الدين والدولة. عبر هذا النظام، والذي لا يفصل الدين تمامًا عن الدولة، يوجد العديد من الأمور الإيجابية لجميع المشاركين، والذي يضمن آثارًا إيجابيةً واسعةً من ناحية الاندماج. على سبيل المثال، إدخال وربط المجتمعات الدينية غير المسيحية مع الدولة من الناحية القانونية أمرٌ سهلٌ. يقول موكل “هنالك العديد من الاتفاقيات بين الدولة والكنيسة، والتي يقبل بها الدستور “بين السطور”، ومثالها الضريبة الكنسية”. إن قيمة هذه الضريبة تختلف من ولاية لأخرى حسب اتفاقها مع الكنيسة، حيث تقوم دائرة المالية بالحصول على هذه الضريبة من المواطنين، ويتم دفعها لاحقا للكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية. بالطبع على الكنيسة دفع ثمن هذه الخدمة التي تقدمها الدولة لها.
في هذه الأيام يتم انتقاد التعاون بين الدولة والكنيسة، ليس فقط بسبب الضريبة الكنسية، بل أيضا بسبب التعاون بالأعمال الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك، وفي أوقات الانسحابات الهائلة من الكنيسة -حسب الإحصاءات فإن عدد المنتسبين للكنيسة الكاثوليكية هو 23.9 مليون، وللكنيسة البروتستانتية 22.6 مليونا- تبدو الروابط المؤسسية مع الكنيسة أمرًا غير عصري لدى كثير من الألمان. ولكن ورغم أن جميع المجموعات الدينية متساوية حسب القانون الأساسي الألماني، فإن الكنيسة المسيحية وبسبب العدد الهائل من منتسبيها، مازالت تحصل على العديد من المزايا مقارنة بالجمعيات الدينية الإسلامية واليهودية. ولهذا تقوم منظمة “HU” الاتحاد الإنساني، وهي منظمة غير حكومية تعنى بحقوق الإنسان، بانتقاد الخلط الكبير بين الدولة والدين في ألمانيا.
هل يمكن لـ “الله/الرب” أن يكون ضمن القانون الأساسي؟
حين قامت حكومة ولاية شلسفيغ هولشتاين بنقاش موضوع الرجوع إلى الله في مقدمة دستور الولاية، قامت كريستين فيسه من إدارة منظمة الاتحاد الإنساني بانتقاد هذا الأمر: “إن الرجوع إلى الله في الدستور لا يعارض حيادية الدولة في المواضيع الدينية فقط، بل يعارض القيم الديمقراطية الأساسية في دستورنا الحالي”. رغم التحديث الحاصل في العقائد الدينية للعديد من الأديان، لا تزال هذه العقائد أو جزء منها يعارض القيم الأساسية للحرية والديمقراطية حسب ما تقوله فيسه: “بين العقائد والمعتقدات الأساسية للعديد من الأديان والقيم الأساسية للدستور الألماني، لا يزال هنالك العديد من الفروقات الكبيرة، منها حرية تقرير المصير في الجسد والحياة، العلاقات الخاصة، وحتى حقوق العمل”.
تقود منظمة الاتحاد الإنساني حملة علمانية صارمة تطالب بفصل كامل بين الدولة والدين. إن مفهوم العلمانية “الحاد/ الكامل” والذي يعود للسياسي الفرنسي فرديناند بيوسون، يعني معاملة الأديان بشكل متساوٍ، ويجب على الدولة أن تكون محايدة تمامًا.
دولة العلمانية الكاملة، والذي قصده بيوسون، موجودة في دول كفرنسا، البرتغال، التشيك وتركيا، على الرغم من أن الأخيرة تحت قيادة رجب طيب أردوغان بدأت تخسر علمانيتها مع الوقت. في فرنسا تقوم العلمانية الكاملة بمنع كل العلامات الموحية بالديانة، كالصليب المسيحي أو القبعة اليهودية والحجاب الإسلامي، داخل المراكز الحكومية والمدارس.
العلمانية تبقى موضوعا للنقاش
على الرغم أن العلمانية الكاملة لها مؤيدوها في ألمانيا، إلا أن موضوع تغيير الدستور أمرٌ لم يطرح للنقاش بعد من قبل السياسيين. إن النقاش العام عن دور الدين في ألمانيا سيبقى في السنوات المقبلة أمرًا مفتوحًا ولن يهدأ في المستقبل المنظور. أيضًا، سيكون نقاش “المصافحة” أمرًا مهمًا جدًا.
في النهاية، إن حادثة هامبورغ ليست الأولى التي يرفض بها طالب مسلم أو إمام مسلم مصافحة أستاذه أو سياسية ألمانية. ولكن في مدرسة كورت تشوخولسكي وجدوا لها حلاً هادئًا، حيث قامت مديرة المدرسة السيدة أندريا لودتكه ببدء محادثة ونقاش مع الطالب الذي رفض مصافحة مدرّسته، رغم مطالبة العديد من الأساتذة بطرده من احتفالات نهاية العام، الأمر الذي رفضته المديرة، ولكن في نهاية الأمر، صرحت المديرة لمجلة “هامبورغ المسائية” أنه في الاحتفالات النهائية، قام الطالب بمصافحتها.
*ترجمة: د. هاني حرب