رشا حبّال – شتوتغارت
عُرضت مسرحية كافيه بابل على مسرح دار الثقافة شفانين فايبلنغين شتوتغارت، وعلى مدار 4 أيام من 7إلى 11 حزيران، وعلى مسرح مصنع الثقافة شتوتغارت يومي 17 و18 حزيران أيضًا، وعلى مسرح المركز الثقافي- مارلين في شتوتغارت يومي 7 و8 تموز. كافيه بابل، عرض مسرحي من ثقافات شبابية متعددة، قدمه المخرج السوري فادي صباغ بالتعاون مع المخرجة الألمانية اسمينه شيل، وقام بالتدريب الموسيقي والغناء جيني مولر.
حاول مخرج العمل فادي الاستفادة من شكل مسرح الفرجة العربي (الحكواتي-القوّال) ضمن فرضية المكان (القهوة) وقد التقى مجموعة من الشباب السوريين والألمان في هذا المكان. تجاوز عدد المشاركين 33 شابًا وشابة قدموا عرضًا مسرحيًا غنائيًا تمثيليًا ضمن مجموعة مشاهد متعددة، وهي من أفكار الشباب المشاركين، طرحوا من خلالها رؤيتهم الخاصة لمشاكلهم ومشاكل العالم، إحدى الشابات تحدثت عن مشاكل الشباب في المجتمع الألماني. شابة سورية تنتظر حبيبها المعتقل خلف السجون تحدثت عن السواد الذي يعيش به حبيبها، وكيف كان صوته ينادي للحرية، المشهد لامس الجميع لأنه تحدث عن معتقلي سوريا بقصّة حب. مجموعة شباب تحدثوا عن نظرة الشباب تجاه المرأة. شابة أخرى عن الإسلام ونظرة أوروبا تجاه المسلمين، وقدمت هذا المشهد وسألت الجميع عن سبب الخوف من الإسلام، الفتاة الألمانية من أصل مغربي، تساءلت لماذا هي الآن في أوروبا؟ هل لأن بلدها ليس جميلاً؟ وإذا كان كذلك، فلماذا يقضي كثير من الأوروبيين إجازاتهم في المغرب؟ من صنع من أوروبا بلد الأحلام؟
مجموعة كبيرة من الشباب قدموا مشهدًا عن الأرقام بأسلوب كوميدي ساخر، شاب ألماني قدم شخصية جندي يكره عمله، فليس لديه الوقت للحبيبه ولا للحياة وقال: “هذا العالم ليس لي!” وسوف يركله ويتخلص منه، وقدم العمل صورة عن همجية داعش، رافق هذا المشهد الغناء باللغة الكردية أيضا.
مجموعة شباب قدموا لوحة عن الحالة النفسية للشباب داخل معسكرات اللجوء، وعن علاقتهم بالألمان الذين يحاولون تقديم المساعدة المادية، ألقوا في نهاية المشهد قصيدة للشاعر محمود درويش “لاشيء يعجبني” باللغة الألمانية.
تميز هذا العرض بالشكل أيضا، فلم يكن هناك مسرح واحد للأداء بل كانت هناك ثلاث مستويات (مسارح) وأحيانا كان المشهد يقدم بين طاولات الحضور، مقهى بكل معنى الكلمة. هذه كانت التجربة الثانية لفادي، بعد تجربته “ياسمين” التي لاقت رواجًا كبيرًا، والتي بدأ فيها مشواره المسرحي في بلدٍ جديدٍ ولغة جديدة.
ياسمين.. مونودراما الحاجة
في بداية المشهد بدا فادي متعبًا ومثقلاً كمن يحمل وطنًا بكامل مدنه على ظهره، بعدها نراه يهدهد الوطن (الوسادة الكبيرة) ليهدأ بعدما كاد أن يقتله. استطاع فادي صباغ أن يسلك الطريق الأطول بسرعة، وخلق لنفسه أرضًا تمنعه من السقوط في هوة البلاد المختلفة. البلاد.. أية بلادٍ، سواء إن كنت ابنها أو وافدًا إليها أم لاجئا فيها، تحتاج فيها لأرض ثابتة تستطيع أن تنطلق منها إلى كل مكان، فادي الذي كان المسرح السوري والعربي بيته الأكبر استطاع فتح بوابة البدايات الجديدة الحقيقية.
فادي صباغ من سوريا – حماة مواليد عام 1978 غادر سوريا باتجاه الأردن وبعدها إسبانيا، النرويج، السويد وأخيرًا المانيا. انطلاقته الجريئة لاقت أصداء جيدة في مدينته الصغيرة، وشتوتغارت ومسارحها، بالإضافة الى نشاطاته الثقافية وورشات العمل المسرحي في شتوتغارت.
إنه الآن يترك بصمة حقيقية في خيال طلابه الألمان، بصمة قادمة من ثقافتنا ومسرحنا السوري، وهذا ما يمكننا أن ندعوه اندماجًا فعليًا في المجتمع، أن تسمح لثقافة البلاد الجديدة لأن تضيف شيئًا إلى ثقافتك والعكس صحيح. نحاور الممثل والـ”مخرج” المسرحي السوري فادي صباغ المقيم حاليًا في ألمانيا، ونسأله:
الفكرة، بدايتها وقرارها، وماهي الدوافع التي أودت بك إلى قرار البداية؟
– أنا ابن هذه الغربة، تنقّلت بين بلدان عديدة، من الأردن إلى إسبانيا، النرويج، السويد وأخيرًا ألمانيا. حملت ذكرياتي ورحلت، لم يكن إرثًا سهلاً، والنسيان كان مجرد محاولات فاشلة. كنت ألتقي بمغتربين قدامى، أشخاصٍ تجاوزوا الستين من العمر، ومغتربين منذ أكثر من أربعين عامًا، ومازالت ذاكرتهم تحمل أسماء أصدقاء الدراسة والشباب. الذاكرة هي الشيء الوحيد الذي كان يشغلني ويثقلني. الفكرة بدأت من خلال دعوة وجهت لي من البلدية ودار الثقافة لأقوم بأي نشاط مسرحي، كان القرار صعبًا وأنا وحيد وجديد في ألمانيا، ولا أملك اللغة الألمانية بعد، والعمل المسرحي هو عمل جماعي لا أستطيع فعله وحدي، وبحاجة لفريق عمل من التقنيين والفنيين، أول قرارٍ لي في هذا المشروع هو قرار أن يكون العمل مونودراما (ممثل واحد) وهو أنا. بالرغم من أنني لا أحب هذ النوع من الأعمال المسرحية.
ترددت كثيرًا في البداية، وخاصة أنه لا يوجد دعم مادي للعمل، فقط مكافأة بسيطة، ولكن هناك فقط أيدٍ ممدودة بالمحبة، هذه المحبة أعطتني الدافع الأكبر وبدأت بالمشروع.
كانت مرحلة الكتابة، وجاءت بعدها الفكرة المجنونة، وهي أن أقدم العمل باللغة الألمانية، لم يصدقني أحد في البداية، كيف؟ وأنا لا أتكلم اللغة إطلاقًا! وسأقدم مسرحية كاملة باللغة الألمانية!؟
استعنت بسكارليت، وهي فتاة من أصول سورية مولودة في ألمانيا، هي التي دفعتني أكثر وراء هذه الفكرة.
ترجمت سكارليت النص، وأنا تدربت على اللغة، وكوّنت مجموعة صغيرة كفريق عمل، فكانت ياسمين. ياسمين الذاكرة.. ياسمين رائحة الشوارع والناس.. الرائحة المتعلقة بعروقنا.
رهاب اللغة، كم كان مؤثرًا في كل العروض؟
– رهاب فظيع وجميل، هو العائق الوحيد الذي كان يقف أمامي خلال التدريبات، وأحيانًا يجعلني أسقط وأتراجع وأعود. كنت على يقين بأنني لن أظهر بمظهر المتقن للغة، ولكن كنت أبحث عن الحد الأدنى ليفهم الجميع ماذا أقول.
في البروفات النهائية، دعيت العديد من الأصدقاء الألمان المقربين لمشاهدة التدريبات وأخذ آرائهم. الرهاب الأكبر هو أن تصل المشاعر والأحاسيس.
اضطررت في بعض الأحيان وخلال التدريبات أن استعين بسكارليت مجددًا، فكنت أجعل منها ممثلة لتؤدي بعض المشاهد واسمعها كيف تقول الكلام لأفهم كيف يمكن أن يقال، كنت أبحث عن تقطيع الجمل. ومن بعد العرض الأول سقط رهاب اللغة، وتوالت بعدها العروض حتى اختفى الخوف بشكل كامل. ولكن بقيت مشكلة الإلقاء، فحصلت بعدها على تدريبات في الإلقاء المسرحي على يد المدربة المختصة من بيت المسرح في شتوتغارت (لويزا فوندرليش). وما زلت أحصل على التدريب بين فترة وأخرى.
كيف يمكن أن تصف حالة الوقوف على خشبة المسرح وأنت تتكلم عن مخلفات حرب لم تنته بعد؟
– في هذا العمل، حاولت أن أبيع الذكريات، ذكريات الحرب، تلك القصص المحفورة في الذاكرة من خلال شخصية تتصارع مع النوم، تتصارع مع الوسادة المحشوة بالذكريات. نحن أبناء الأحلام والحرب، حلمنا بغد أجمل لأطفالنا، وشاهدناهم وهم يقتلون. تشردنا مجبرين، تعلقنا بالأمل ورحلنا، خبأنا كل الصور والأحلام، الجميل منها والسيء، وتعلقت آمالنا بنا بعد أن تاهت في كل الدروب واستقرت في أحشائنا. حاولت أن أبتعد عن عالم الميديا، وأغوص في تفاصيل الحياة من خلال شخصية تعيش مع ذكرياتها كأي شخص خرج من الحرب وهو مايزال يعيشها، كانت عملية بحث عن النسيان كي تستمر بالحياة بطمأنينة.
هذا هو السؤال المطروح: من يشتري ذكرياتنا؟؟
- تجربة المسرح مع الحرب ليست جديدة، فبعد الحرب العالمية الأولى والثانية، ظهرت الكثير من التجارب المسرحية لكتاب عالميين تحدثوا فيها عن الحرب. أما نحن أبناء القرن العشرين، فالحالة مختلفة، لقد تربينا على مفاهيم الاشتراكية والإنسانية، ولهذا نحن الآن نعيش حالة سقوط كل المفاهيم والشعارات، وكل المنظمات الإنسانية والأممية.
إننا وحدنا نعيش الكذبة، هي لعبة الحرب وخلق سوق لبيع السلاح، يجب أن نظهر قذارة هذا العالم، أنا لست يائسًا، ولكنني أبحث عن مخرج، أبحث عن عالم أجمل.
الوسادة الكبيرة التي رافقتك خلال العرض، ماهي دلالاتها؟
- الوسادة في العرض كانت كل شيء، بنيت عليها فكرة العرض، بتجرد، لم تكن مجرد وسادة. فالشخص لم يكن يستطيع أن ينام على تلك الوسادة، تارة هي الحبيبة، وهي الحقيبة، وهي الشجرة، إلى أن تظهر لنا في نهاية العرض وهي تحمل تاريخ الشخصية. الوسادة كانت محشوة بذكرياته وبملابس أشخاص قتلوا، أحذية أطفال ووشاح أمه، وصور، وغيره… حتى الياسمين.