شام السبسبي. صحفية سورية مقيمة في دمشق
لم تكن تعلم يارا الحاصباني أن فكرة راودتها وصديقها المصور سمير الدومي، ستتحول إلى حدث تكتب عنه باهتمام بالغ العديد من الصحف العربية والأوروبية. كانت تعرف شيئاً واحداً؛ أن هذه الجائحة يجب أن يتم تحديها، مواجهتها، والتغلب عليها وعلى مختلف المستويات، وليس الفن إلا واحداً من هذه المستويات وطريقةً لتخبرنا يارا من خلالها بفكرتها، قصتها، ورسالتها التي وجهتها إلى مختلف أنحاء العالم من ساحات باريس الخالية.
هي راقصة باليه سورية مقيمة في باريس، درست الباليه في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وحازت على لقب Arab got talent مع فرقتها الراقصة “سيما Sima”، كما شاركت في العديد من المهرجانات الفنية كـ”Art pour la paix” و”Dancing on the edge“. ومؤخراً برز اسم يارا الحاصباني (26 عاماً)، كواحدة من الفنانين الذين أبدعوا أعمالاً حقيقة بعثت على الأمل مجدداً بعد جائحة حصدت أرواح الملايين وما تزال.
عن تلك التجربة الفريدة وعن يارا والاغتراب والحلم وحياة الإنسان السوري حوار أبواب هذا.
باريس خالية إلا منها..
قررت يارا الحاصباني ، في أحد أيام الحجر الصحي في باريس، أن تنزل إلى الشارع برفقة مصور صديق لها ليتحديا معاً كورونا، في سبيل بعث الأمل بقلوب المفجوعين على ضحاياهم والمحظورين في بيوتهم والنائمين على أسرتهم في المستشفيات.
- كنتِ في وسط المشهد أمام قوس النصر تؤدين تلك اللوحة الراقصة كأنما أنت وحيدة في باريس. فما الذي دفعك في أجواء تسودها ويلات كورونا، للقيام بذلك؟
كنت يومها وحيدة في منزلي أشعر بمحدودية الحركة والاختناق، إضافة إلى رغبتي الكامنة بالعودة إلى الرقص في شوارع باريس كسالف عهدي، وفي هذه الأثناء تواصل معي المصور “سمير الدومي”، وأثناء الحوار خرجت الفكرة وقررنا التوجه إلى تلك المعالم. كانت رغبة منا أيضاً في مواجهة ذلك الوضع المأساوي بالفن وجمالياته من خلال صورٍ تعبر عن المعاناة ولكن بطريقة جمالية يسودها التحدي.
- لو تصفين لنا حقيقة شعورك في تلك اللحظات..
وصلنا في السابعة مساءً إلى ساحة تروكاديرو حيث برج إيفل وكانت وهرة المكان طاغية بادئ الأمر؛ ثم بدأت أشعر بوحشة وخوف، ولكن لم يلبث هذا الشعور ثوان حتى تحول إلى حرية وإحساس بالسعادة، وقمت لحظتها بكل الأمور دفعة واحدة: بدلت ملابسي واتخذت مكاني وبدأت أشعر بالحميمة مع ذلك المكان، وأخذتْ تتشكل في تلك اللحظات أُلْفَة لم أعهدها في تجاربي السابقة.
- أديتي رقصتك أمام معالم باريسية بارزة: متحف اللوفر، برج إيفل، قصر غارنييه، وقوس النصر. فلماذا وقع الاختيار على تلك المعالم؟
إذا أردنا أن نبدأ من ساحة تروكاديرو وبرج أيفل؛ فحقيقة الأمر أنني كنت قد أقمت عرضاً في تلك الساحة برفقة صديقي “حسين الغجر” وكان موضوعه: “الأطفال، ضحايا الكيماوي في سوريا 25 آب 2015” ما لاقى تفاعلاً عظيماً من الجمهور مع رسالتنا وهذا بدوره دفعني للتعلق بالمكان واختياره ثانيةً لتأدية لوحتي الراقصة في ظل كورونا، والتي كانت دليلاً على الاستمرار والتواصل والرغبة بإحياء الحدث عبر مادة فنية.
- ولكن ما الذي يضيفه المكان/الفضاء للوحة الراقصة أو العرض الفني؟
الواقع أن المكان عامل رئيسي؛ فمثلاً ساحة حقوق الإنسان”parvis des droits de l’homme”والتي حُفر على أرضيتها أسماء العديد من الشهداء في سبيل حقوق الإنسان، ناسبت رمزيتها رسالتي تماماً؛ فكل ساحة وكل مكان له رمزية خاصة وأنا بدوري أستغل تلك الخصوصية لتخدم فكرة معينة لدي؛ فأمام “قوس النصر” وهو القوس الذي احتفل الناس تحت أعمدتهِ بانتصاراتهم؛ كانت رقصتي تقول: “سننتصر يوماً على الوباء”، وأنا -كما أتمنى- سأقف يوماً هناك محتفلةً بنصري في قضيتي.
مسيرة من الألم.. بركان من الحساسية
لم يكن اغتراب يارا الحاصباني عن سوريا بعد خسارتها القاسية 2014 ليُعْقِمَ ينبوع عطائها الذي تدفق غزيراً في بلاد منحتها حرية الحركة، وبمعنى أدق؛ لغتها ومتسعها الرحب للقتال والمقاومة والحب والحرية. فدخلت فرنسا عام 2015 متمرسة بالأوجاع تبحث عن بضعة أمتار لتبدأ حربها من جديد، ولكن هذه المرة تحارب بروحها وجسدها والفن الذي لا تجيد سواه وسيلةً للعطاء.
- لابد أن كل سوري يحمل اليوم قضيةً ما بحسب محنهِ وآلامه التي خبرها في السنوات التسع الماضية. فما هي قضية يارا؟ وكيف يعبر فن الباليه عن هذه القضية؟
كانت قضيتي منذ البداية تحصيل حق العيش بكرامة وفي إطار الإنسانية في وطننا سوريا، ثم تعرضت لخسارة قاسية بوفاة والدي تحت التعذيب في أقبية النظام السوري؛ وبعد مرور السنوات ما زلت أشعر وكأن الحادثة حصلت البارحة، وغياب هذا الإنسان عن حياتي أثر لدرجة معها لا يمكنني أن أتجاهل أو أتغاضى أو أنسى السبب في ذلك الغياب.
- وعن دور الباليه في التعبير عن هذه القضية تقول يارا الحاصباني:
تبدو القصة هنا أخف وطأةً وألطف إلى حد ما؛ فبعد وفاة والدي شجعني الأهل لأكمل ما بدأته في مجال الرقص. كانت بدايتي مع الباليه في الطفولة الباكرة، وكان والدي المشجع والداعم الأساسي لي لأمضي قدماً على درب هذا الفن، وغيابه دفعني للرقص لأنْ لم يكن بمقدوري التعبير عن الحزن العميق بداخلي إلا من خلال رقصة تتكشف حركاتها عن شوقي وحاجتي له ولوجوده ونصائحه.
- في أوج لحظات الصدق في هذا الحوار تحكي يارا لأبواب:
الرقص كان وسيلتي في الطفولة وعندما رحل والدي أيقنت أن الرقص ما زال وسيلتي التي علي التمسك بها، فضلاً عن أن الرقص كما الموسيقى لغة، تصير مفهومة عند من يشعر بها ويتفاعل معها، وهي نهايةً تعبر عن جمالية معينة؛ وهنا دوري لأحارب القبح الذي عايشته في الحرب عبر هذا الفن، وهذا تحدي أسعى لمتابعته لآخر الطريق.
- مضى على اغترابك خمسة أعوام كانت مثمرة على الصعيد الفني والمهني. ولكن يحضرني سؤال: لماذا كان الانفجار في باريس وليس في دمشق؟
تعرض والدي لأول اعتقال عام 2013، وقررت بعد هذه الحادثة أن أؤدي عرضاً راقصاً في المعهد العالي في دمشق أحاكي عبره عملية الاعتقال؛ لكنه رُفض فوراً وتم إجباري على استبدالهِ بـ(رقصة باربي!). لم يكن ثمة مساحات لممارسة الحرية الفنية في سوريا، ولا تقبل من الناس لهذا النوع من الفنون. بينما كانت باريس هي المسرح الأكبر لأعبر عما أريد.
الأحلام لا تنقص بل تزيد.. وأنا قريبة من تحقيق حُلمي
بعد وصولها إلى فرنسا بحثت يارا الحاصباني عن طريقةٍ تعيد من خلالها تركيب الحياة التي بدت شظايا غير قابلة للترميم أول الأمر، ثم انضمت إلى “ورشة الفنانين في المنفى” وبدأت تتدرب يومياً وتتعرف على عالم الرقص في باريس؛ لتقدم بعد ذلك عرضاً تحت عنوان “غير قابل للتوقف” ضمن مهرجان “ربيع الرقص العربي” الذي نظمه معهد العالم العربي كخطوة أولى على درب الاحتراف.
- قدمتِ العديد من العروض واللوحات الراقصة في أزقة وشوارع باريس. فما الاختلاف ما بين الرقص على المسارح والرقص في الأزقة والطرقات؟
بالنسبة لي كانت تجربة الرقص في الشوارع مساحتي التجريبية للارتجال، وما قدمته ليس رقص الباليه التقليدي تماماً وإنما نوع آخر من الرقص يسمى “الرقص المعاصر”، وكانت هذه التجربة تعبيراً عن رغبة جامحة بالمقاومة مرات عندما يتناهى إلي خبر سيء من سوريا، أو أشعر بكرب ما، ومرات تكون رغبة مني في التعبير ومناصرة القضايا التي أنتمي لها؛ فأرقص لإحياء ذكرى الثورة السورية وذكرى المعتقلين في أقبية السجون وأعبر بذلك عن تضامني وعن انتمائي الدائم والأبدي لذلك المكان ولتلك القضية.
- أما عن عروضها الاحترافية في المسارح فتحكي “يارا”:
كان الجمهور في المسارح أوسع وأكثر معرفةً بالفن؛ ما جعلنا ندرس كل حركة وإيماءة وبالتالي تكون الرسالة/الفكرة الفنية مدروسة بعناية أيضاً وليست مجرد صرخة استنجاد أو تفريغاً للطاقة في الشوارع أمام بشر يعبرون أمامك بسرعة وقد يقفون أو لا يقفوا.
- تحدثتِ عن اشتغالك على أسلوب خاص بك يمزج بين الرقص والمسرح. فما هي عناصر هذا الأسلوب وأين كان التجديد فيه؟
عندما وصلت باريس، ودرتُ على المدارس وأنواعها، اكتشفت أن جسدي ليس الجسد الأفضل لرقص الباليه، وإنما كان قوامه أقرب إلى الرقص المعاصر، ولم أتعامل مع هذا القوام والتكوين المميز أو المختلف لجسدي إلا على أساس إيجابي؛ وهذا ما دفعني لاستخلاص المفيد مما تعلمته في فن الباليه ومزجه مع ما لدي وما أود أن أقدمه في هذا المجال.
وأنا سورية والراقصون السوريون قلائل هنا في فرنسا وأوروبا عموماً، ما يعطي خصوصية وزخماً لهذه التجربة؛ من خلال مزج الموروث السوري الثقافي مع مبادئ الرقص لدى المدارس الفرنسية إضافة إلى إتقاني الأداء المسرحي “كالوضعيات” ليكون بإمكاني روي القصص من خلال الرقص وهذا ما يسهل على المبتدئ أو غير المحترف الدخول إلى عالم هذا الفن.”
- تمنيتِ أن تؤدي لوحاتك أمام الأطفال في مخيمات لجوئهم وتعلمي السوريين فن الباليه ولو كان ذلك في سن الخمسين. أما تزال هذه أحلام يارا؟ وما دور سوريا في كل ما تقدمين؟
من الممكن أن تزيد هذه الأحلام ولكن لا يمكن أن تنقص. وأحدها سيتحققُ قريباً في مخيم الزعتري، فرغم كل الصعوبات التي واجهتنا، سنقدم عرض “بحيرة البجع” لأولئك الأطفال فهم الأحقّ بفسحةٍ من الجمال والفن، وسوريا ستبقى حاضرة بالطبع لأني سورية؛ كبرت فيها ولن أنساها.
- لاقت تجربة اللوحات الراقصة في أزمة كورونا استحساناً عاماً. فما خطتك المستقبلية وهل نحن على موعد مع جديد؟
دائماً هناك ما هو جديد. في الصيف القادم، وبعد انقضاء فترة الحجر الصحي وأزمة كورونا، سأقدم عرضاً طويلاً يتناول قضية المرأة العربية.
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً:
سمر سامي.. هل تعلمين كم أنت جميلة
أزياء الأجداد تحمي البيئة في Abdinvintage حوار مع مؤسسة المشروع السورية سارة عابدين
الفنان كيفان الكرجوسلي.. الرسم يجري في دماء العائلة وهو المستقبل