ولاء خرمنده
ما يزال مجتمعنا مصرًا على تربية نساء متكلات اقتصادياً، ورغم بديهية دور العمل في تحقيق ذات وأمان الإنسان الفردي. مازال الجدل مفتوحا عن مشروعية عمل المرأة دينيا، مازال المجتمع منشغلاً في توزيع أدوار أفراده، وللمرأة الثانوية منها، والنقاش حاميًا بين المحقرين للأدوار النسائية النمطية التي تفرض على المرأة التزام دورها كأم وزوجة فقط، وبين أولئك المقدسين لهذه الأدوار.
وفي خضم كل هذا، تدفع مئات السوريات في سوريا وخارجها ثمن نظريات المجتمع في تربية الفتيات، والتي أورثت فكرًا عقيماً جعل من هؤلاء النسوة في مهب ريح البطالة والفقر بغياب معيليهم من الرجال بسبب العنف الدائر هناك، مئات النساء لم يتلقين أي تأهيل سابقاً مهنيا كان أم دراسيًا، وجدن أنفسهن في دور المعيل، بعد أن قضينَ عمراً في دور المرأة العالة.
إن الاتكالية التي يورثها هكذا نوع من التفكير، تجعل التعامل مع المجتمع الخارجي صعبًا بشكل خاص، لفقر فرص الاحتكاك والتعليم للسيدات، ورغم وجود النموذج العامل المستقل في مجتمعنا، ورغم نجاح بعض هؤلاء السيدات في تجاوز الظلم الاجتماعي هذا نحو تحقيق الاستقلال والنجاح بإعالة أسرٍ، والخروج عن سلطة المعيل، لكن استسلام النساء لجاذبية وسهولة انتظار شريك سيهتم بكل قضايا الإنفاق مازال موجودًا في أذهان الكثيرات ممن يحملن هذه الفكرة حتى إلى هنا، حيث فرص العمل كثيرة وإمكانية التأهيل متوفّرة. هذا الاعتقاد بأن دور العمل في حياتنا مقتصر على حاجتنا للمال، بينما هو في الحقيقة، أثر لوجودنا في هذه الحياة.
ورغم أن أزمة العمل، ودور القادمين، ودور الحكومة في تأهيل اللاجئين لسوق العمل، تشكل الجزء الأكبر من الجدل القائم اليوم، إلا أن الأمر مختلف تمامًا على أرض الواقع، ولأني أتحاشى الوقوع في جلد الذات أو تمجيدها، فإن صعوبة العمل لا تتعلق فقط بمسألة صعوبة تعلم اللغة، وخصوصاً لكبار السن، بل إن هؤلاء يعانون من مشاكل في التأقلم مع مصير مهنتهم، حيث لا يمكن لأحد العمل هنا بأجر يحميه القانون، إلا بشهادة، وهذا ضروري لمزاولة المهن الحرة أيضًا، آلاف الناس هربوا من سوريا، ويملكون مهارات معينة، لا شيء يثبتها.
السيدات يعانين بشكل خاص من مسألة حضانة الأطفال أثناء تعلم اللغة والبحث عن عمل، الحكومة تدفع باتجاه التعليم المهني، والتعليم العالي يمر بمعاملات معقدة.
نعم هناك العديد من الصعوبات مع البدايات الجديدة، خصوصًا على المستوى المهني، لكن هناك ما يمكن استغلاله أيضًا، حيث تكاليف التعليم منخفضة في ألمانيا مع وجود خيارات واسعة للدراسة، بعض المؤسسات والجامعات تقدم منحًا خاصة للاجئين، التدريب المهني ممكن في عديد من المهن التي لم نألفها كمهن نسائية تجعلنا ندهش في دروس اللغة الألمانية التي تشابه العربية في تأنيثها وتذكيرها الكلمات في كل فرصة، من تأنيث مهن كالنجار، والميكانيكي.
لا مكان هنا لفكرة المرأة العالة
النساء هنا يعملن في معظم الميادين رغم أن المرأة الأوروبية أيضًا مازالت تعاني من التمييز ضدها في أماكن العمل كفرق الأجور الواضح بين الجنسين لذات الشواغر، وبطء الترقي الوظيفي للنساء، الفروقات هذه تجعل النساء فقيرات في مرحلة التقاعد حيث يتلقين مساعدات اجتماعية تتناسب وحجم الضرائب المدفوعة من قبلهن، لكن هذا لا ينفي أنهن نساء الأنقاض.
قرأت عن جدل أثارته مؤرخة ألمانية عن أسطورية نساء الأنقاض الألمانيات اللواتي أبعدن أنقاض الحرب، وساهمن بإعادة إعمار ألمانيا، ولكنني أعتقد بوجودهن، فالنساء هنا يعملن بإصرار واضح على خرق أفكارنا الجاهزة حول أدوار النساء.
لقد بات علينا وبالتجربة الاعتراف بقيمة العمل، وأن لدينا من الأفكار والعادات ما هو قاتل، وهو ما يحتاج جهدا خاصًا لنبذه، لربما القادمون إلى هنا سيكون لهم صوت يتحدث عن صعوبات الحياة الجديدة، لكن هذا لن يحدث إلا إذا أبدينا رغبة حقيقية بالتخلص من إغراء البطالة، خصوصا تلك المرادفة للأنوثة والدلال في أذهان الفتيات اللواتي يتربين على وهم ضيق المساحة، في حياة تستحق أن تعاش، هذا العيش الذي يبدأ من العمل، وكذلك العيش مع تجربة بلاد تدمرت في الحرب ونهضت لتصبح من أقوى اقتصادات أوروبا، قد يكون درسًا مهما للسوريين.
إن كل هذا الحديث عن الحرية والحقوق، تلك التي تطالب فيها النساء خصوصًا، لن يكون ذا جدوى ما لم نحقق قدرًا معقولاً من الاعتماد على ذواتنا، رغم صعوبة البداية، وإن أي حديث عن حريات وحقوق النساء لا يبدأ بتحقيق فرص عادلة لتستطيع النساء دخول سوق العمل -وهو ما ينقلهن من دور تابع اقتصادي لا يمتلك زمام حياته، إلى فرد فعال لديه الاستقلال اللازم ليكون حرًا- هو حديث حالم لا يعول عليه.
هذا الأمر الذي يتعلق بالمرأة أولاً ورغبتها في الانعتاق من فكرة المرأة العالة وكل التخويف بالإنتاجية، ومعرفة أن الرغبة بالحرية والعدالة بين الجنسين ليست عادلة بما يكفي اذا اعتمدت النساء على الرجال ماليًا، ورغم أن دور المرأة كزوجة وأم دور يحترم، لكنه لا يلغي ضرورة عمل المرأة، وإن الشراكة يجب أن تعمم لتكون هذه العدالة محققة، وإن خيارات النساء جميعها محترمة، طالما أن للمرأة حقًا حرية الاختيار.